نقاش المستخدم:غازي الصوراني

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

غازي الصوراني

تطور مفهوم المجتمع المدني وأزمة المجتمع العربي

للوهلة الأولى قد يبدو للبعض أن مفهوم " المجتمع المدني " مفهوم بسيط أو سهل التناول، لكونه بات مألوفاً كشعار ثابت في الخطاب المطلبي لكافة القوى السياسية، سواء المشاركة في الحكم أو المعارضة له ، عدا عن أنه بات عنواناً لمعظم الحوارات والندوات التي تعقدها القوى السياسية، أو تلك التي تقيمها أو تروج لها المنظمات غير الحكومية في البلدان العربية، فقد "نجحت" هذه العبارة في القفز والوصول إلى أعلى سلم الأولويات في مساحة واسعة من الخطاب العربي النخبوي، بعد أن تراجعت إلى قاع السلم ، مفردات وعبارات ومفاهيم كانت –وما زالت- أقرب إلى التفاعل مع الواقع الاجتماعي، واكثر قدرة على مخاطبة الوعي النخبوي، والوعي العفوي الجماهيري في آن واحد، وأقصد بذلك مفاهيم التحرر القومي والتنمية والعدالة الاجتماعية والتقدم والوحدة والاشتراكية والعداء للإمبريالية رغم حدة الصراع مع العدو الصهيوني ومشروعه التوسعي الاحلالي الاستيطاني الكولونيالي. لكن المألوف ليس بالضرورة بسيطاً ولا سهل التناول أو التطبيق ؛ فبالرغم من حالة الذيوع والانتشار لعبارة " المجتمع المدني " في بلادنا ، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، إلا أن هذا ، لا ينفي الطابع الطارئ والمستحدث الوافد والكمي لعملية انتشار هذا المفهوم من جهة ، ولا ينفي واقع الإبهام والغموض الذي يشوب الحديث عنه في الإطار العام للمثقفين أو القوى السياسية من جهة أخرى ، وذلك في موازاة اغتراب هذا المفهوم ، الذي يصل أحياناً لدرجة القطيعة مع الشرائح والأنماط الاجتماعية العربية المتباينة في سياق تطورها الراهن ، وهو سياق بطيء الحركة تشده خيوط الماضي في ظروف دخل العالم عبرها إلى دروب من التقدم لا مكان فيها لأحد من الماضي . لكن الإشكالية البالغة التعقيد التي تواجه قوى التغيير الوطني الديمقراطي في بلادنا ، تتبدى في قوة الوجود المادي والمعرفي لمعطيات "الماضي" ورموزه التي مازالت ماثلة في الحاضر عبر تكيفها وتفاعلها معه في إطار عملية إعادة تجديد إنتاج التخلف، في أنظمة الحكم المطلق وعلاقاتها الاجتماعية، التي قد تختلف من حيث الأسلوب أو الشكل الأتوقراطي،الثيوقراطي،أو البيروقراطي/الكومبرادوري، لكنها خاضعة-بصورة عامة أو نسبية-لشروط التبعية من جهة،ولشروط اقتصاد السوق والخصخصة وقواعدها المنفلتة من جهة أخرى. هذا المشهد الملتبس، لا يعني أن نبدأ – كعرب – من نقطة النهاية أو آخر الشوط الذي وصل إليه الآخر ، وأقصد بذلك النظام الرأسمالي وتطوره الى نظام العولمة المتوحش الراهن . لأن الحديث عن المجتمع المدني في بلدان الوطن العربي هو حديث عن مرحلة تطورية لم ندخل أعماقها بعد ، ولم نتعامل مع أدواتها ومعطياتها المعرفية-العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والصناعية-بصورة إيجابية ، إذ أنه بالرغم من كل ما يتبدى أمامنا من مظاهر العصر الحديث ، أو الحداثة – في العديد من البلدان العربية - فإن ذلك لا يمثل سوى شكل ظاهري استهلاكي في الغالب، لمجتمع تابع غير متبلور، تتعدد وتختلط فيه الأنماط الاجتماعية كلها بصورة هجينه، و تتيح للأنماط القديمة إمكانية السيطرة في كثير من بلدانه ، يتجلى ذلك في بنية العواصم والمدن العربية -التي نفترض أن تكون الحاضنة أو الحامل الأساسي والأول -عبر علاقات وقوى إنتاجية متقدمة- لمفهوم المجتمع المدني وبلورته في المجتمع العربي ، "وهي بنية -مدن عربية- متريفة أو هي أصلا ريفية ، إضافة الى تكونها من وحدات (أحياء) ذات تجمعات بشرية تتمحور حول خلفيات اجتماعية أو مناطقية أو طائفية ، محكومة بهذا الشكل أو ذاك بالمنظومة الثقافية العربية الإسلامية الى تشكل المرجعية المباشرة والفورية لمعظم الفئات الاجتماعية أفرادا أو جماعات سواء في الريف أو "المدينة" المتريفة ، وارتباطا بذلك هناك مسألة تطور الطبقة الوسطى وعلاقتها (الهشة) ب"المجتمع المدني" نظرا لعدم استقلاليتها بل وتبعيتها للدولة ، وضعف قدرتها على إحداث ضغوط موازية باتجاه تفعيل الديمقراطية وقيام مجتمع مدني ، والسبب في ذلك يعود الى أن الطبقة الوسطى ارتبطت إما بالتكوينات الرأسمالية الخارجية أو باقتصاد الدولة العربية وانفاقها وبالتالي هيمنتها ، على العكس تماما عن تطور هذه الطبقة في أوروبا" ، إنه مشهد يبرر التساؤل المشروع: هل يوجد مجتمع حديث في بعض هذه البلدان ؟ قبل أن نشرع بالسؤال الثاني ، هل يوجد حقاً مجتمع مدني فيها ؟ إنه السؤال الذي يطرحه د. عزمي بشارة بصورة مباشرة في الحالة الفلسطينية . من هنا تجيء أهمية المراجعة التاريخية لنشأة مفهوم المجتمع المدني وحركته ومضامينه ودوره في انتقال عملية التطور و صعودها في البلدان الأوروبية، من مرحلة العصور الوسطى الإقطاعية، إلى مرحلة الرأسمالية أو عصر النهضة ، وما لهذا الدور من أثر في إحداث القطيعة مع الفكر الغيبي من جهة، ومع العلاقات الاجتماعية السياسية والاقتصادية الإقطاعية من جهة أخرى ، آخذين بعين الاعتبار استحالة نقل التجربة ، بل إدراك المنهج والأدوات والمفاهيم المعرفية واستخدامها في واقعنا العربي الذي يختلف في تطوره الاجتماعي – الاقتصادي ، بصورة جذرية .عن سياق التطور في أوروبا والغرب الرأسمالي عموماً .

وبالتالي فإن إدراك الدلالات المعرفية لمفهوم المجتمع المدني في القرنين السابع عشر والثامن عشر يفترض إدراك المقومات والعلاقات الداخلية والخارجية لعصر النهضة أو الحداثة ، منذ بدايته ، ومن ثم للنظام الرأسمالي بشموليته، في إطار المجتمعات الأوروبية التي نشأ وترعرع فيها الفكر الليبرالي كتجسيد لذلك المفهوم . لأن القيمة الأساسية لأفكار الحداثة* تكمن في مساهماتها الفاعلة في تطوير مكانة " المجتمع المدني " والدولة الليبرالية في آن واحد داخل المجتمع الصناعي الحديث ، باعتبارهما صيغتين منسجمتين لمعادلة واحدة .

هذه المعادلة أو الإطار الناظم لكل من مفهوم المجتمع المدني والنمط الليبرالي ساهمت بصورة واضحة ومباشرة في تنظيم العلاقات الرأسمالية الجديدة ، أو الصراع الطبقي بالاحتكام إلى طرفي المعادلة المتوازيين ، الدولة الديمقراطية – الليبرالية ومؤسسات المجتمع المدني .

لقد كان تكريس هذه المعادلة داخل النمط الليبرالي في البلدان الأوروبية أحد العوامل المنشطة والدافعة لعملية الإنتاج والتراكم الرأسمالي فيها، ثم التوسع الرأسمالي وتسارعه اللاحق في الانتشار في الأسواق العالمية ، خصوصاً في البلدان الأقل تطوراً، والبلدان المتخلفة والمستعمرات ، والتحكم فيما بعد، بمجمل عملية التطور السياسي الاجتماعي والاقتصادي لهذه البلدان، بما خدم عملية التوسع الرأسمالي من جهة ، وحال دون تطور آليات مفهوم المجتمع المدني أو تفعيلها من جهة أخرى . وقد ساعد على ذلك أن هذه البلدان بقيت محكومة بهذه الدرجة أو تلك لآليات التبعية التخلف العام وبنيته الفوقية وأدواته الاجتماعية في المجتمع الزراعي، شبه الإقطاعي ،الريعي،المحكوم بالعلاقات العشائرية القبلية . وهو مجتمع يتميز –كما هو معروف-بالرتابة و البطء الشديد في الحـراك الاجتماعي الناتج عن استمرار هيمنة البنى الاجتماعية-الاقتصادية التقليدية والتراثية القديمة. -نلاحظ تسارع الحراك الاجتماعي بصورة شاذة في حالات خاصة مرتبطة بالفساد البيروقراطي للأنظمة العربية- وفي هذا الجانب، فإن التشابه بين مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الشرقية الأخرى في آسيا والهند وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، لم تفرضه المصادفة، بقدر ما فرضته أشكال التماثل في التفكير والمنهج والأنماط والعلاقات الاجتماعية السائدة، والتبعية والتخلف، بالرغم من اختلاف الأديان واللغة والتقاليد .

ومع استمرار بقاء هذه المجتمعات في إطار النمط الزراعي ،شبه الرأسمالي، شبه الإقطاعي- العشائري القديم، فإن عملية التوسع لبلدان المركز الرأسمالي لم تجد صعوبة تذكر في السيطرة عليها والتحكم في مسار تطورها السياسي والاقتصادي اللاحق، بما يخدم هيمنة المصالح الرأسمالية وتفردها من جهة، ويحول دون النهوض الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لتلك المجتمعات أو امتلاكها لمقومات التقدم والحداثة أو المجتمع المدني من جهة أخرى.

لذلك فإن الحديث عن صيغة المجتمع المدني وفق النمط الليبرالي وإمكانية تطبيقه أو توفر مقوماته من حيث الشكل والمضمون في بلادنا العربية أو بلدان العالم الثالث عموماً ، فرضية غير قابلة للتحقق في ظل أوضاعها الراهنة، لأنها تتخطى التركيبة الاجتماعية الاقتصادية التابعة والمشوهة في هذه البلدان ، أو أنها تتعاطى مع المفهوم المجرد للمجتمع المدني في الإطار السياسي – الاجتماعي الضيق للنخبة الليبرالية من المثقفين، وبعض الأنظمة الحاكمة بما لا يضر بمصالح هذه النخب أو حلفائها في الداخل والخارج .

ويكفينا للتدليل على صحة ما تقدم أن الأنظمة التسلطية في العالم الثالث تبدو مكرهة اليوم ، في ظل سيادة آليات العولمة ، على الأخذ ببعض أشكال "النمط الليبرالي الديمقراطي" أو الانفراج السياسي بصورة متفاوتة وجزئية ارتباطا باحتياجات أو ضرورات الانفتاح الاقتصادي وهيمنة القطاع الخاص الطفيلي -الكومبرادوري -البيروقراطي من ناحية، وبما يخدم مصالح المركز الرأسمالي المعولم ووكلائه على المستوى الإقليمي (باكستان-تركيا-كوريا الجنوبية-إسرائيل……الخ) من ناحية ثانية.

المسألة الأخرى في هذا السياق أننا يجب أن ندرك ، بصورة واضحة، طبيعة الفرق الجوهري بين نشأة " الرأسمالية " في العالم الثالث ، والرأسمالية في البلدان الغربية . ففي الغرب ، بنت الرأسمالية قوتها الاقتصادية أولاً ، ثم استولت على السلطة السياسية . أما في دول العالم الثالث، فالاستيلاء على السلطة يتم أولاً ثم يجري الحديث عن " بناء القوة الاقتصادية " ، بما يعزز القاعدة المتبعة والمتداولة في العالم الثالث التي تقول أن السلطة مصدر الثروة وبالتالي فإن الفجوة بين الإطار الضيق لأصحاب السلطة المستبدة التي تكاد تفقد وعيها الوطني من جهة، والإطار الواسع للجماهير الشعبية الفقيرة من جهة أخرى، ظاهرة قابلة للتزايد والاتساع عبر التراكم المتصاعد للثروة -ذات الطابع الطفيلي عموما- الذي يؤدي – كنتيجة منطقية أو حتمية – إلى تزايد أعداد الجماهير الفقيرة المقموعة والمضطهدة تاريخياً ،والتي ستتعرض إلى مواجهة أوضاع لا تحتمل ، وبالتالي فإنها تصبح مهيأة للإحباط أو اليأس ، أو للاقتناع بالأساليب التي تدعو إلى استخدام العنف – تحت غطاء ديني أو اجتماعي- أكثر بما لا يقاس من قناعتها بالمنافسة الانتخابية الشكلية أو الهامش الديمقراطي الليبرالي الضيق للخلاص من وضعها اليائس . فإذا كان واقعنا العربي على هذه الشاكلة من التخلف والتبعية والخضوع، الى جانب التطور الاجتماعي الاقتصادي المشوه والقهر الوطني والقومي ، كيف يمكن لهذا الواقع أن يتعاطى بصورة جدلية مع مفاهيم المجتمع المدني بالمعنى التاريخي والحديث والمعاصر ؟ خاصة وأن هذا الواقع "لا يمكن فيه الحديث بَعد عن خارطة طبقية مستقرة لكل بلد عربي على حدة ، وتاليا للوطن العربي ككل" . سؤال لا أدعي سهولة الإجابة عليه ، فهذه الإجابة ستظل مرهونة بعملية تطور الواقع الموضوعي (الطبقي) المعاصر في بلدان الوطن العربي من جهة ، ولنهوض الأحزاب التغييرية الديمقراطية الثورية والعقل الجمعي الطليعي في هذه البلدان من جهة ثانية . ذلك لان " المجتمع المدني "رغم كونه مفهوما نظريا مجردا وليس شيئاً جاهزاً ، إلا انه -أيضا- مفهوما ولد وتبلور مع ولادة وتبلور المجتمعات البورجوازية والعلاقات الرأسمالية والصراع الطبقي في اواخر التشكيلة الاقطاعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وبالتالي فهو -بالنسبة لنا- أداة نظرية لا يمكن أن نلمسها كحقيقة تجريبية متطورة تاريخياً أو مطبقة – كلياً أو جزئياً - في الواقع العربي المعاصر ، بالرغم من اجتهادات بعض الأكاديميين والمثقفين العرب المخالفة لهذا الاستنتاج ،وأقصد بالذات تلك الاجتهادات التي ترى في المؤسسات الارثية والعائلية والعادات والتقاليد ولجان الزكاة والأحزاب القديمة، جزءُ من هذا " المجتمع المدني " تاريخياً! على أي حال ، فإن الطابع المستحدث والملتبس- عند البعض- لهذا المفهوم ، رغم ذيوع انتشاره ، يتطلب إدراكاً أولياً لتطوره التاريخي ولإبعاده ومقوماته الفكرية ، إلى جانب تطبيقاته في المجتمعات الأوروبية كمقدمة تُسِّهل الوصول – بالمعنى النسبي – إلى تحديد مكانة " المجتمع المدني " في بلادنا . وهذا يستدعي التعرض إلى محورين :- المحور الأول : يتناول نشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره في الفكر الحديث والمعاصر للحضارة الرأسمالية الغربية . المحور الثاني : ويتناول الأزمة الاجتماعية في بلدان الوطن العربي وغياب الأسس المادية لمفهوم المجتمع المدني وآفاق المستقبل .



الجزء الأول : نشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره في الفكر الحديث والمعاصر للحضارة الرأسمالية الغربية في سياق انتقال مجتمع أوروبا من النمط الزراعي الإقطاعي محدود الأفق إلى النمط الجديد التجاري الصناعي الرأسمالي بآفاقه المفتوحة ، وعبر صراع وتناقض نوعي متعدد الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية ، بدأت تراكماته الأولى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، في هذه المرحلة الانتقالية ، تولدت المفاهيم والأفكار والمدارس الفلسفية معلنة بداية عصر جديد للبشرية ،عصر الحداثة، عصر النهضة والتنوير ، عصر المواطنين الأحرار ، عصر المجتمع المدني والديمقراطية . لكن ولادة هذه المفاهيم لم تكن عملية سهلة في المكان أو الزمان ، ولم تتم أو تظهر معالمها دفعة واحدة ، ولم تتخذ شكل القطع منذ اللحظة الأولى مع النظام أو الحامل الاجتماعي القديم. إذ أن هذا الانقطاع لم يأخذ أبعاده في الانفصام التاريخي بين مفاهيم العصر الإقطاعي القديم ، ومفاهيم عصر النهضة والتنوير الجديد ، إلا بعد أربعة قرون من التراكم والنفي ، شهدت صراعاً مادياً وفكرياً هائلاً من جهة ، وتحولات ثورية في المدن والتجارة والاقتصاد والاكتشافات العلمية من جهة أخرى. هذه التحولات كانت بمثابة التجسيد لفكر النهضة والإصلاح الديني والتنوير والديمقراطية ، وسيادة القانون في إطار الحداثة ، وهي التي أرست في الوقت نفسه القواعد الأساسية التي استند إليها " المجتمع المدني " وارتبط بها فيما بعد عبر علاقة جدلية متجددة أو قابلة للتجدد . وفي هذا السياق يقول د.صادق العظم "إن ما يميز العصر الأوروبي الحديث ، هو هذا الاتحاد العضوي الفريد الذي تم بين المصالح الحيوية للطبقات التجارية الصاعدة وبين الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية والميكانيكية الجديدة ، لقد أضحى للرأس مال مصلحة حيوية في العلم ، كما أصبح للتقدم العلمي مصلحة لا تقل حيوية في الرأس مال ، وهذه دينامية حضارية جديدة تماما لم يعرفها الإنسان من قبل ، هذا المزيج الجديد ، برهن أنه طاقة متفجرة وهائلة الى أبعد الحدود ، مدمرة وخلاقة في وقت واحد ، هذه الطاقة هي التي صنعت ما يسمى بالحداثة ، وشكلت العالم الحديث وقضت على القديم ، كان شعارها : المعرفة قوة ، وكان للعلم دورا حاسما في الإنتاج التدريجي للفلسفة الحديثة ، تماما كما كان حاسما في إنتاج نوع جديد من المعرفة بالطبيعة وظواهرها ، وبالمادة وبقوانين حركتها عبَّر عن نفسه بمقولات جديدة . فإذا رجعنا ، أو حاولنا مراجعة أبرز المقولات والتصورات التي سيطرت على الخطاب الفلسفي وتفسيره للعالم قبل عصر النهضة أو قبل المرحلة الحديثة ، نجد أنها تضم التالي : الماهية ، الجوهر ، المُثُل ، الفيض ، الغاية ، الوجود بالقوة ، الصورة ، الهيولي ، الفكرة المطلقة ، أو الصانع الأول ، التسيير ، التخيير ، الغيب …الخ ، فإذا انتقلنا الى الفلسفة الحديثة وخطابها ، فماذا نجد ؟ نجد تراجعا بطيئا ولكن متزايدا ومؤكدا لهذه المقولات والتصورات الغيبية جميعا لصالح صعود نوع مغاير منها ، أخذ يحتل مواقع السيطرة على الخطاب الفلسفي الحديث (خطاب ومقولات عصر النهضة) ، مثلا : المكان ، الزمان ، الجسم المادي ، الذرة ، الحركة ، العلة الفاعلة ، الصفات الأولية ، الصفات الثانوية ، قوانين الحركة ، الاستقراء . وكل هذه المقولات مستمدة ومشتقة من العلم الحديث وخطابه ونظرياته . باختصار ، لقد فرضت الكوزمولوجيا العلمية الجديدة (المادية الميكانيكية تحديدا) على الفلاسفة والفلسفة خطابا وتصورات ومقولات علمية نقيضه ونافية للفكر الغيبي القديم ومقولاته . ومما لاشك فيه -من جانب آخر- ، أن ولادة " المجتمع المدني " لم تكن ممكنة بدون نجاح الثورات السياسية البورجوازية التي أنجزت كثيراً من المهمات الديمقراطية ، في فضاء التنوير والعقلانية والعلم والديمقراطية . فقد كان نجاح هذه الثورات أو التغيير العنيف ، في هولندا في مطلع القرن السابع عشر ، وفي بريطانيا من (1641 - 1688)، ثم الثورة الفرنسية (1789 – 1815)، والثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة أو عصر الحداثة . ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلى المجتمع المدني ، مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى التي دشنت العلاقة بين الإنسان والعالم من جهة وبين العقل والمنهج العلمي من جهة أخرى . ولكن ما هي المنطلقات والعوامل الأساسية التي دفعت نحو تشكل هذا العصر واستمراريته ؟ إن معظم الدراسات التي تناولت هذه المرحلة التاريخية الأولى من عصر النهضة وما يطلق عليها " المرحلة الانتقالية " تتفق على أن العنصر الرئيسي لهذا العصر هو أولوية الفرد وحريته ، أو الفردية ، والإقرار باهتمامات الشخصية الإنسانية وحقوقها ومصالحها كموقف نقيض للحكم المطلق ، الديني والسياسي ، الذي ألغى هذا الحق وصادره أكثر من ألف عام ، دون أن نغفل دور التجارة وأثرها في تعزيز النزعة الفردية في سياق تطور الطبقة البورجوازية الصاعدة آنذاك ، والتي وجدت في التجارة سندها المعنوي بما تستدعيه من نظام في المعارف والأخلاق والقوانين والأنظمة التي تحمي وتعزز سيادة الطبقة الجديدة، فالبرجوازي –الصانع أو التاجر- غايته الأولى هي الربح في عالم وحيد ، هو عالم الامتلاك والبضاعة والتنقل الحر ، في الزمان والمكان ، ولا حاجة به للراهب أو لسلطان الكنيسة والحكم المطلق . بالطبع لم يكن هذا التحول ممكناً ، بدون تراكم المواقف والرؤى الفلسفية والفكرية الرحبة التي كسرت الجمود الفكري اللاهوتي – الإقطاعي السائد ، وأدت إلى تهاوي استبداد الكنيسة في عقول الناس ، وإخفاق نفوذها الاقتصادي والسياسي، ومهدت لولادة النظام الجديد-المجتمع المدني- . ومن الجدير بالتأمل والمتابعة أن هذه العملية من التراكم والتحول النوعي تخللتها أشكال متنوعة من الصراع الحاد، الذي نشب طويلا بين دعاة الجديد المدافعين عن سيادة العقل والعلم والحرية، والمدافعين عن القديم أو النظام القائم على السلطة المطلقة في السياسة والمجتمع والمعتقدات الدينية والمعارف، وبالتالي فإن ما أتى به فلاسفة الفكر السياسي الحديث هو مواكبة وإتمام لما قام به علماء وفلاسفة آخرون في مجالات الفلك والطبيعة والرياضيات ونظرية المعرفة. من هنا فإن الحديث عن نشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره في الفكر الغربي كما يقول سعيد ابن سعيد العلوي "يفترض تحليل مجموعة هائلة من النصوص التي كتبها هوبس وجون لوك وروسو ،وكانط وهيجل، وماركس وانجلز ولينين وجرامشي، إضافة إلى ما كتبه أوغست كونت وسان سيمون وتوكفيل وماكس فيبر وآدم سميث وكنز وروزا لوكسمبرج، كما يلزمنا أن نتعرض للمفهوم من حيث هو تصور تجريدي لتطور المجتمع الغربي الحديث بحيث يكون ميلاد المجتمع الصناعي تعبيرا عنه وتصويرا لما صاحبه وواكبه من صراعات وثورات سيكون التعبير عنها هو تطور النظرية الليبرالية من جانب وميلاد وتطور الماركسية من جانب آخر " . و بدون ذلك التحليل ، الذي يقع على عاتق الطليعة الحزبية السياسية المثقفة بالدرجة الأولى ، لن يتم التوصل إلى صياغة و تركيب الرؤية النظرية التحليلية المناسبة لواقعنا العربي الراهن ، وما تتطلبه من ضرورة إعادة النظر في مختلف الأبعاد , الأيديولوجية و الثقافية , و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية , و استنباط جدلية العلاقة المطلوبة – على الصعيد القطري و القومي , لتفعيل الأطر النقيضه المنظمة والآليات التغييرية لكي تقوم بدورها في تجاوز المرحلة الراهنة ببرنامجها القومي التقدمي القادر على صياغة المستقبل . من ناحية أخرى،فإن تحليل مفاهيم عصر الحداثة والمجتمع المدني سيقودنا إلى استكشاف عمق التباين بين مجتمعاتنا وبين المجتمعات الأوروبية، ليس فقط من حيث التطور الاجتماعي التاريخي و شكله و محتواه، بل من حيث التطور المعرفي الذي تواصل في حركة متجددة صعودا في الغرب، في حين انه عاش في الشرق حالة انقطاع و جمود معرفي أو ضمن حلقة دائرية منذ القرن الثالث عشر الميلادي إلى يومنا هذا , عبر استمرار سيطرة النظام القديم و أدواته و رموزه السياسية و الاجتماعية ،في ظل عوامل داخلية وخارجية مترابطة ، أغلقت السبل في وجه كل محاولات النهوض أو محطاته في التاريخ العربي المعاصر , و ذلك على النقيض مما جرى في سياق التطور الأوروبي الذي تفاعل عبر الصراع الحاد مع أفكار التنوير و النهضة وأدواتهما وأفسح المجال لنمو الدور الرائد والهام للبورجوازية الصاعدة وتعاظمها، في مقابل تراجع سلطة النبلاء و الكنيسة أو السلطة المطلقة.

فقد ترافق صعود البرجوازية في تلك المرحلة مع ظهور العصر الكلاسيكي لنظرية المجتمع المدني، أو عصر النهضة، الذي تمت فيه صياغة هذه النظرية التي تبلورت عبر حصيلة نوعية من أفكار التنوير للعديد من المفكرين و الفلاسفة من كل أنحاء القارة الأوروبية و على مدار الأربعة قرون السابقة على القرن التاسع عشر .

وقد كان نيقولا ميكافيللي ( 1469- 1527 ) من أوائل المنظرين السياسيين أو المبشرين بالعصر الجديد , فقد حاول في مؤلفاته ، البرهنة على أن البواعث المحركة لنشاط البشر هي الأنانية و المصالح المادية . فالفردية و المصلحة عنده هما أساس الطبيعة الإنسانية، وقد وجدت البرجوازية الصاعدة -آنذاك- في هذه المفاهيم ملاذا ومدخلا لتطورها وصعودها. و في هذه المرحلة، ظهرت كتابات نيقولا كوبرنيكس (1473 – 1532 ) التي ساهمت في تحطيم الأيديولوجية اللاهوتية , ووضعت كما يقول "انجلز" الأسس الأولى لبداية تاريخ تحرر العلوم الطبيعية من اللاهوت. هذه الأسس تبناها -فيما بعد- الفيلسوف و العالم الفلكي "جوردانو برونو" (1548 – 1600) صاحب النظرية العلمية التي تقول ب"لا نهائية المكان أو لا نهائية الطبيعة "، و هو القائل بأن "الكلمة الأخيرة في كل مجال من مجالات المعرفة تكمن في العقل وحده". (وبسبب موقفه العقلاني هذا، حكمت عليه الكنيسة بالموت حرقا) . كما كان للعلماء الطبيعيين – ليوناردو دافينشي و جاليليو و غيرهما – إسهامهم في هذا الجانب , إذ أنهم صاغوا النظرة الديئية Deism** إلى الطبيعة التي أسهمت إلى جانب النزعة الإنسانية ، في تعزيز الفلسفة العقلانية و المنهج العلمي وتطورهما كمنطلقات أساسية للبرجوازية الأوروبية الصاعدة تمهيدا لولادة عصر النهضة . و بتأثير هذه الأفكار , التي ساهمت في تفسخ العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية في النظام الإقطاعي الأوروبي , تراجع الدور السياسي الذي لعبه الدين في المجتمع , و تراجعت معه الهيمنة الثقافية الفكرية اللاهوتية , لحساب تنامي الظروف الموضوعية و العوامل الذاتية , التي أدت إلى انتشار العلاقات الرأسمالية و تفشيها في مسامات المجتمع الإقطاعي . و قد اتخذت هذه العملية مسارا تدريجيا في منطلقاتها و أهدافها الفكرية و الفلسفية العامة , فبدأت خطواتها الأولى تحت غطاء النزعة الدينية الإصلاحية التي تزعمها مارتن لوثر (1483– 1546) الذي أعلن مطالبته بالإصلاح إلى جانب انه أنكر دور الكنيسة و رجال الدين كوسطاء بين الإنسان و الله . و كان لهذا الموقف دور هام في فتح آفاق القطيعة بين الدين و الدولة و تعميق تطور مفاهيم المجتمع المدني و المثل السياسية البورجوازية و الدولة الديمقراطية. ومع تواصل الحراك والتناقض والصراع الاجتماعي والفكري بوتائر متفاوتة في تسارعها بين القديم والجديد، ظهرت أفكار الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561-1626) التي تدعو إلى إقامة منهج علمي جديد يرتكز على الفهم المادي للطبيعة وظواهرها، كما تدعو إلى "النزعة الشكية فيما يتعلق بكل علم سابق كخطوة أولى نحو الإصلاح وتطهير العقل من الأوهام : أوهام القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السوق، وأوهام المسرح" . لقد كان فرنسيس بيكون –كما يقول ول ديورانت-"اعظم عقل في العصور الحديثة، قام بقرع الجرس الذي جمع العقل والذكاء، وأعلن أن أوروبا قد أقبلت على عصر جديد" . ويبدو أن الفيلسوف الفرنسي ديكارت(1596-1650) كان متأثرا إلى حد بعيد بأفكار بيكون، فقد ارتكز المذهب العقلاني عند ديكارت على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية، وكذلك الأمر بالنسبة لتوماس هوبز (1588-1679) الذي رفض في مذهبه في القانون والدولة نظريات الأصل الإلهي للمجتمع، واستنتج أو استخلص أن كل سلطة مدنية يجب أن تكون انعكاسا لأصل مجتمعي دنيوي، وقد حورب بسبب موقفه هذا الرافض لاشتقاق السلطة المطلقة من الحق الإلهي، إذ أن الوجود الممكن الوحيد للمجتمع عند هوبز هو، المجتمع المدني، المجتمع السياسي المنظم في دولة" . فالنسبة لهوبز "فإن كل نشاط هو نوع من أنواع الحركة ، وبما أن الفكر نشاط ، فلا بد من الاستنتاج بأن الفكر حركة ، والحركة بطبيعة الحال هي حركة جسم مادي ليس إلا ، وهذا ما دفعه الى تأكيد الطبيعة الدنيوية والبشرية للسلطة السياسية رافضا بصورة حاسمة المصدر الإلهي لهذه السلطة" وفي سياق تطور هذا المفهوم نتوقف قليلا عند جون لوك (1632-1704) الذي كان مباشرا وصريحا في رفضه لمفاهيم المجتمع الإقطاعي، ولذلك فقد كانت رؤيته مغايرة لكل من سبقوه، حينما أعلن أن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع، لقد تميز جون لوك بوضوحه فيما انتهى إليه، فالتعاقد الاجتماعي عنده "غاية معلومة لا تكون مع العبودية والخضوع•، فهما نفي لتلك الغاية وإقصاء لها، فالغرض الأساسي من التعاقد الاجتماعي هو المحافظة على الأرواح والملكية الخاصة وإلغاء النظام الملكي المطلق (أو الفردية الاتوقراطية) التي لا تتفق مع طبيعة المجتمع المدني الذي ينطلق في الأساس من مبدأ الإرادة الحرة" . وفي سياق تطور عملية إنتاج المعرفة في أوروبا، يتواصل تطور مفهوم المجتمع المدني مع شارل مونتسكيو (1689-1755)، أحد أعمدة التنوير الفرنسي، ففي كتابه "روح القوانين" يتفق مونتسكيو مع مضمون المبادئ التي صاغها سلفه الإنجليزي جون لوك، لكنه يتميز بتأكيده على أن الضمانة الأساسية للحرية تكمن في المؤسسات الدستورية الكفيلة وحدها بالحد من العسف وكبحه، إلى جانب رفضه للحكم المطلق الذي اعتبره شكلا مناقضا للطبيعة الإنسانية ، ومناقضا للحقوق الشخصية وحصانتها وأمنها، ففي "مجال العقوبات ، يضع مونتسكيو حدا فاصلا بين الفعل وبين نمط التفكير، فالعقاب يستحق فقط على الأفعال التي يقترفها الإنسان لا على أفكاره أو آراءه، إذ أن عقاب الإنسان على أفكاره هو امتهان فاضح للحرية".(9) ولكن رغم إيمان "مونتسكيو" بسيادة القانون وحرية الفكر، إلا أن "جمهوريته لا تتجلى في حكم الشعب كله، بل في ممثليه من النخبة الأرستقراطية، فهو يخشى حكم الشعب باعتباره استبداد الرعاع، وهو أسؤ أنواع الاستبداد، فالجمهورية هي حكم الرجال الأحرار وليست حكم العبيد ولا أخلاق العبيد" . وإذا كان لأفكار مونتسكيو، ومن بعده فولتير، وكوندياك، دور هام في وضع أسس المجتمع المدني البرجوازي الجديد، فإن جان جاك روسو(1712-1778) لم يتميز بأهمية أفكاره الفلسفية النظرية فحسب، بل في تلك الأفكار الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والتربوية التي طرحها، وكان "أكثر وضوحا من كل المنورين الفرنسيين في عهده، فقد وقف مع وجهة نظر البرجوازية الصغيرة الراديكالية والفلاحين والحرفيين، وهي وجهة نظر أكثر ديمقراطية من معاصريه ، ففي كتابه " العقد الاجتماعي " يحاول "روسو" البرهنة على أن الوسيلة الوحيدة لتصحيح التفاوت الاجتماعي ، هي في ضمان الحرية و المساواة المطلقة أمام القانون ، و هذه الفكرة لقيت ترحيبا فيما بعد عند رجال الثورة الفرنسية لا سيما اليعاقبة" كما طرح في " عقده الاجتماعي " نظام الجمهورية البورجوازي الذي أكد فيه أن الحياة السياسية يجب أن تقوم على سيادة الشعب المطلقة ، و رفض تقسيم السلطة إلى تشريعية و تنفيذية ، و اقترح بدلا منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسية الهامة ، انه بذلك – كما يقول د. عزمي بشارة ، " يؤسس سلطة مطلقة ، هي سلطة الشعب ، و لكن الشعب يبقى كيانا مجردا إذا لم تتوفر الديمقراطية كشكل لسلطته ، أي كيانا معنويا لا توجد وسائل لترجمة و ممارسة قوته ، و يفرد المجال لمن شاء من الدكتاتوريين الشعبويين للتكلم باسمه" . إن مأثرة روسو الخالدة ، أنه أكد على شرط التلازم بين النسبي وبين الحرية والمساواة، فلا "مكان في عقده الاجتماعي لمواطن غني إلى درجة تمكنه أن يشتري الآخر، وفقير إلى درجة يضطر فيها إلى بيع نفسه، لقد أدخل روسو عنصر المساواة إلى المجتمع المدني، وبذلك جعل العدالة الاجتماعية شرط الحرية" . إن روسو بذلك يعبر عن قناعته -وهي قناعة موضوعية صحيحة- بأن أصل التناقضات في الحضارة البشرية يكمن في التفاوت الاجتماعي "الذي يرجع، بدوره، إلى التفاوت في الملكية –ملكية الأرض، وأدوات العمل. إن المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني المعاصر، عند روسو، هو ذلك الرجل، الذي وقف للمرة الأولى، ليسيج قطعة من الأرض ويصيح: "هذا –لي"، ووجد أناس، بسطاء بما فيه الكفاية، ليصدقوا ذلك" .

 لقد استحق روسو بحق لقب "رجل الديالكتيك في فلسفة التنوير الفرنسي" الذي أطلقه انجلز عليه.

وبقيام الثورة البرجوازية الفرنسية ، لم يعد ثمة مناص من تحطيم العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية الإقطاعية ، لحساب التطور الرأسمالي الصاعد داخل إطار المجتمع المدني الجديد في بقية البلدان الأوروبية، وخصوصا ألمانيا، التي كان التطور الرأسمالي فيها أبطأ مما كان عليه في إنجلترا وفرنسا، في مقابل التطور المعرفي للفلسفة الألمانية التي كانت أكثر تقدما ووضوحا وشمولية عن مثيلها في البلدان الأوروبية المجاورة. من هنا ، جاء وصف ماركس لفلسفة عمانويل كانت (1724 – 1804)، رائد الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، "بأنها النظرية الألمانية للثورة البورجوازية الفرنسية، فكانط الذي عايش تطور الرأسمالية في المجتمعات الأوروبية ، هو أول من تنبه إلى خطأ مقولات آدم سميث (1723-1790) حول الطبيعة الاقتصادية والتجارية للمجتمع المدني ، التي تناولها في كتابه الشهير "ثروة الأمم" عام 1766 حيث "أكد على مفهومين: الأمة بدل الدولة ، والغنى (أو الثروة) بدل السياسة ، بما يعني أن المجتمع المدني هو مجتمع للمبادلات التجارية، فالعمليات الإنتاجية والمبادلات التجارية تتمخض من تلقاء نفسها، وبصورة تدريجية، عن حكومة نظامية تضمن للأفراد حريتهم وأمنهم ومصالحهم من دون تدخل الدولة وقوانينها في المجال الداخلي، ويقتصر دورها على المجال الخارجي لتأمين أمن الحدود، فضلا عن القيام بالمشاريع الكبرى التي تعجز عنها المبادرة الخاصة. وهكذا يكون آدم سميث هو أول من دشّن القطيعة بين الدولة والمجتمع المدني" ، أو الليبرالية ، ممهدا -مع غيره من المفكرين والفلاسفة- الطريق للفلسفة الألمانية ودورها الرائد ، وخصوصا تلك الفلسفة التي تناولت الطريقة الديالكتيكية والمنطق الديالكتيكي، وصاغت القوانين التي تحكم عملية التطور" ،وهي مأثرة تسجل للفيلسوف الألماني هيجل (1770-1831)، الذي كان أول من نظر إلى العالم الطبيعي والتاريخي والروحي، بوصفه عملية، أي في حركة دائمة، في تغير وتطور مستمرين، وهو أول من صاغ بشكل منظم النظرة الديالكتيكية إلى العالم، وما يوافق ذلك من منهج ديالكتيكي في البحث. لقد صاغ هيجل الديالكتيك باعتباره علما فلسفيا يعمم التاريخ لكامل المعرفة، وكذلك القوانين الأكثر شمولا لتطور الواقع الموضوعي، ونقصد بها قوانين الترابط والتناقض ونفي النفي، ذلك هو المبدأ الديالكتيكي الهيغلي في وحدة الجوهر والمظهر، إلا أن هذه الوحدة لا تستمر في الحركة الى ما لا نهاية ، فهي تتوقف -كما يرى هيجل- عند الدولة الألمانية أو عند مفهوم نهاية التاريخ ، وهو ما تصدى له ماركس فيما بعد. ولكن مأثرة هيجل تكمن في رؤيته التي تقوم على أن تطور التاريخ هو انعكاس لتطور الحرية العقلية المدركة بأن "الأشياء في ذاتها" ليست مستعصية على المعرفة، فليس في طبيعة الأشياء (في الطبيعة أو المجتمع) أية عوائق أو حدود تقف أمام عملية المعرفة، هنا تتجلى بوضوح دلالات فلسفة هيجل التي لا تنفصل عن المضمون الداخلي لعملية التطور الاجتماعي وتناقضاته، وهذا ما أدركه هيجل في نظريته عن المجتمع المدني، التي حاول من خلالها تخفيف الصراعات الاجتماعية عبر رؤية تقوم على التوازن بين الملكية الخاصة والأنانية الفردية من جهة، وإشكالية الإفقار والاغتراب من جهة أخرى، وكما يقول د.عزمي بشارة "هناك محاولة مستمرة –عند هيجل- لحل مشكلة الإفقار والاغتراب الناجمة عن مبدأ الأنانية الفردية والملكية الخاصة، التي يقوم عليها المجتمع المدني، دون التنازل عن الفرد وحريته وحقه في التعاقد، ومن اجل ذلك ينطلق هيجل من الخطوة الأولى في تأسيس المجتمع المدني، وهي العمل من أجل سد الحاجات البشرية ضمن نظام الملكية الخاصة التي لا تعني شيئا دون الاعتراف الاجتماعي بها، فالتبادل بين البشر في علاقات السوق لا يمكن أن يتم دون القانون ودون عملية تنظيم أو إدارة العدالة، فالسوق وحدها لا تنتج قانونا وعدالة، من هنا تنشأ الحاجة إلى السلطة، السلطة العامة (Public Authority)، (سلطة المجتمع المدني) ولكن هيجل يعود إلى القول بأن للملكية الخاصة الفردية حدودها، رغم تأكيده بأن هذه الملكية هي أساس المجتمع المدني" . إن تأكيد هيجل على أن للملكية الخاصة الفردية حدودها، أو قيودها، يرتبط بمفهومه للحرية الذاتية ، التي تتحقق فقط في نظام اجتماعي ، يتيح للفرد ، حدا معينا ومقبولا من مقومات الحياة بكل جوانبها داخل المجتمع، ففي ظروف الفقر والبؤس والحرمان الاجتماعي ، لا يمكن أن تتوفر عوامل التطور الاجتماعي والثقافي للفرد، وبالتالي لا جدوى من الحديث عن الحرية، إذ أنها تصبح –في حال وجودها- بلا أية قيمة أو معنى. ففي غياب حرية الفرد –في ظروف القهر الاجتماعي أو الطبقي- تنتفي أهم ميزات المجتمع المدني وهي تطور الوعي السياسي ، بل وينتفي وجود المجتمع المدني كواقع ملموس قائم بذاته ، كما نلاحظ في مجتمعاتنا العربية في ظروفنا الراهنة . وفي مواجهة المنطلقات الفكرية للفيلسوف الألماني "هيجل" عموما ، ونظام الملكية الخاصة وعلاقات السوق ومبدأ الحرية الذاتية خصوصا ، قدم ماركس (1818-1883) تعريفه للمجتمع المدني على أنه "حلبة التنافس الواسعة للمصالح الاقتصادية البرجوازية ، فالمجتمع المدني عنده هو المجتمع البرجوازي ، انه فضاء الصراع الطبقي ، وهو بالتالي الجذر الذي تمخضت عنه الدولة ومؤسساتها المختلفة" ، إذ أن الدولة (الرأسمالية) -لدى ماركس- "ليست بأي حال من الأحوال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه ، وليست هي واقع الفكرة الأخلاقية كما يقول "هيجل" ، لكنها نتاج المجتمع نفسه عند درجة معينة من تطوره ، اقتضت في النهاية وكما يقول انجلز "ظهور قوة تقف ظاهريا فوق المجتمع" ، وبالتالي فإن وجود الدولة -في المجتمع البرجوازي- يعني وجود مجتمع مدني ، كما أن وجود المجتمع المدني هو الذي أفرز الدولة ذات السلطة العامة والقوة المسيطرة الخاضعة للنظام والقانون ، وهو أمر لم يسبق وجوده في التنظيم العشائري ، أو التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية القديمة ، وقد أشار انجلز الى الدور الذي امتلكته الدولة البرجوازية بقوله "إن أصغر شرطي في الدولة المتمدنة يملك سلطانا يفوق سلطان جميع هيئات المجتمع العشائري" وهذا يقودنا الى استنتاج أن مقولة المجتمع المدني لا تستخدم إلا في ظل الملكية الخاصة أو المجتمعات التي تعتمد هذه الملكية" . لقد تصدى ماركس لمُنَظِّري الإصلاح الاجتماعي في عصره ،"الذين نظروا الى الجماهير الأوروبية البائسة والمعدمة بصفتها موضوع الإصلاح والتغيير الذي سيتم لمصلحتها ولكنه لن يأتي أو يتم على يدها أو بفعلها ، إن هذه الجماهير ، موضوع الإصلاح والمستفيد منه ، ولكنها ليست الذات الصانعة للثورة أو التغيير ، لقد رفض ماركس هذه الصيغة الفوقية ، وتجاوزها جدليا الى ما هو أرقى ، أي الى تأكيده المعروف بأن المهمة الإصلاحية والثورية إياها غير قابلة للإنجاز إلا على يد أصحابها الذين سيحولون أنفسهم ووعيهم ومجتمعهم (المدني) من خلال الصراع الطبقي" . إن وضوح هذه الرؤية "استند في الواقع الى المفاهيم العلمية الاستراتيجية الجديدة التي أشاد عليها ماركس المادية التاريخية ، ومن أهمها" : 1-"مفهوم البنية الفوقية ، الذي تطور عند ماركس وتبلور نتيجة النقد الراديكالي الذي وجهه ماركس الى ظواهر مثل الدين والحق والفكر والثقافة والدولة …الخ وبخاصة الى الفلسفة السائدة وقتها في ألمانيا التي كانت ترجع تلك الظواهر الى مصادر إلهية أو روحية متعالية" . 2-"مفهوم قوى الإنتاج ، وهو أهم أداة معرفية-علمية حاسمة قدمها ماركس الى علوم الأفعال ، وقد استخدم هذا المفهوم الجديد ، كأساس علمي لنقد سجالي شديد ومدمر وجهه الى تلك النظريات والفلسفات السائدة يومها ، القائلة بأن الحياة الاجتماعية بمؤسساتها هي نتاج لروح تاريخية معينة أو لقيم ثقافية أو تأملات ميتافيزيقية مثالية شائعة بكثرة في تلك الأيام في ألمانيا (وهي ما زالت شائعة -وفاعلة- في بلادنا ونحن في القرن الحادي والعشرين !!؟) إن ماركس بتقديمه لفكرته عن قوى الإنتاج ، ومضامينها ، أكد أن الحياة الاجتماعية بمجمل تجلياتها وظواهرها ، لا تتكون في الأساس عشوائيا أو تتشكل روحيا ، أو تتطور ذاتيا وإراديا ، بل ترتكز الى قاعدة موضوعية محددة ومتحركة يلخصها نوع معين من قوى الإنتاج المادية" . 3-"مفهوم علمي استراتيجي آخر قدمه ماركس ، هو مفهوم علاقات الإنتاج ، وقد نشأ هذا المفهوم نتيجة استيعاب ماركس ونقده وتجاوزه لفكرة المجتمع المدني التي استخدمها هيجل ، فقد أحل ماركس مفهومه العلمي الجدي ، ليس محل فكرة المجتمع المدني فحسب ، بل محل فكرة "العلاقات الاجتماعية" أيضا ، وعبر النقد المستمر ، تجاوز ماركس مفاهيم مثل "المجتمع المدني" و"العلاقات الاجتماعية" و"علاقات التبادل الاقتصادي" لصالح مفهوم علاقات الإنتاج . كذلك تجاوز ماركس عبر مفهومه الجديد ، أفكارا شائعة ومتداولة حول خصائص المجتمع المدني وتفسير نشأته . "لقد تجاوز ماركس نقديا النظرية الأقوى يومها التي ردت المجتمع المدني الى "ميل الإنسان الطبيعي الى المقايضة والمبادلة والتجارة على حد قول "آدم سميث" ، وبذلك أصبح مفهوم علاقات الإنتاج (الرأسمالية) تأكيدا للمنشأ التاريخي "للمجتمع المدني" ، الى جانب الدور الحاسم لقوى الإنتاج في تحديد طبيعته وخصائصه المميزة ، يتجلى ذلك في قيام ماركس ، بإعادة زرع رأس المال ذاته في بنية علاقات الإنتاج الاجتماعية-التاريخية ، بحيث لا تتميز به إلا تشكيلة اقتصادية تاريخية معينة ومحددة لا أكثر -المجتمع البرجوازي أو التشكيلة الرأسمالية- وبذلك تتكشف -عند ماركس- حقيقة رأس المال كمركز لبنية من علاقات الإنتاج الرأسمالية ، التي يرى بحق ، أنها تشكل في الوقت ذاته علاقات إنتاج استغلالية أيضا ، كما يبين -من ناحية ثانية- أن "الذات الاقتصادية" البرجوازية قد بنيت تاريخيا وصُنعت مرحليا ، ولم تكن دوما موجودة أو مهيمنة . في ضوء ما تقدم ، فإن الديمقراطية الليبرالية البرجوازية (أو ديمقراطية المجتمع المدني الرأسمالي) تتسم بالطابع الشكلي والأحادي ، الذي يقتصر ويتوقف عند الجانب السياسي وتعدديته المحكومة بسقف النظام الرأسمالي وقوانينه ، وهي بالتالي تفتقر في مضمونها -وبصورة شبه كلية- لأية مقومات أو أسس فعالة لتطوير البعد الاقتصادي والاجتماعي بما يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص ، وهو أمر ندرك أنه غير ممكن التحقيق في ظل نظام الدولة الرأسمالية عموما ، وأنظمة الرأسمالية التابعة والمشوهة، كما في بلادنا وبلدان العالم الثالث خصوصا ، فالتفاوت الكبير في الدخل والثروة ، بين القلة الحاكمة من جهة والجماهير الشعبية من جهة ثانية ، يحول دون انتقال الديمقراطية من شكلها السياسي الى أي شكل اقتصادي أو اجتماعي متقدم ، ذلك أنه في ظل ضعف أو غياب القوى والأحزاب الثورية-الديمقراطية ، الناجم عن ضعف علاقتها العضوية المنظمة بالجماهير الفقيرة ، الأداة الرئيسة وصاحبة المصلحة الأولى في إنجاز عملية التغيير ، فإن استمرار هيمنة وسيطرة الحلف الطبقي الحاكم يشكل القاعدة الأساس أو السقف النهائي الذي تتوقف عنده الديمقراطية السياسية في النظام اللبرالي عموما وفي بلداننا العربية ، بصورة خاصة . فالشرط الأول للديمقراطية الليبرالية ، وجود الطبقة أو التحالف الطبقي المهيمن الذي يفرض ديكتاتوريته -المكشوفة أو المستترة حسب الظرف- من ناحية ، وجماهير أو طبقات شعبية مسحوقة لا تملك (هي وأحزابها وفصائلها) سوى حق الكلام والتنديد أو إصدار البيان السياسي الذي لا يتضمن -في كثير من الحالات- بصورة مباشرة تشهيرا سياسيا واضحا بممارسات رموز ذلك التحالف التي فاقت في بشاعتها كل وصف ، وهو أمر لا يدعو للغرابة لأن الدولة البرجوازية (أو الدول التابعة ،ذات الأنظمة الليبرالية، المحكومة بعلاقات رأسمالية طفيلية ومشوهة) تسود فيها -استناد لماركس- "ديمقراطية البرجوازية وديكتاتوريتها ضد الطبقة العاملة، فهي ديمقراطية من حيث علاقتها بالفرد المجرد الذي يمكن أن يتمتع بحقوق سياسية ، ولكنها -من ناحية أخرى- ديكتاتورية في علاقتها بالإنسان المنتمي الى الطبقة المحرومة من الملكية، فالديمقراطية في هذه الحال تقتصر على ممثلي الاحتكارات في السلطة ، في مقابل أن الديكتاتورية يتم فرضها على الطبقة العاملة (والجماهير الفقيرة) لحرمانها من أي مشاركة في السلطة الفعلية ، رغم كل الشعارات البراقة ، حول الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تتاجر بها عمليا لتضليل الجماهير وبعض الواهمين من المثقفين ذوي الأصول أو النزعة البرجوازية ، الذين يبنون مواقفهم وفق رغباتهم ومصالحهم الخاصة ، فنرى كيف يروجون لفكرة تبادل السلطة سلميا" ، علما بأن البرجوازية -حتى في ظل العملية الانتخابية والبرلمان- لا يمكن أن تسلِّم السلطة بإرادتها للجماهير إلا في حالة إدراكها لعجزها عن المواجهة أولا ، ولقوة ضغط الجماهير وطليعتها الاشتراكية الديمقراطية الثورية المنظمة ثانيا. لقد عبَّر ماركس عن جوهر الدولة الليبرالية البرجوازية بوضوح ، في كتابه "العائلة المقدسة(1845) ، حينما قال : إذا كانت الركيزة الأساسية للدولة القديمة هي العبودية ، فإن ركيزة الدولة الحديثة هي المجتمع المدني" وهي ركيزة تقوم أساسا على المنافسة والملكية الخاصة وحرية الفرد ، وفي هذا السياق فإن "عبارة "حقوق الإنسان" ليست سوى حقوق عضو المجتمع البرجوازي بالذات ، فالإنسان لا يُنظر إليه في ظل هذه الحقوق الثابتة ككائن بشري اجتماعي ، بل على العكس تماما ، بمثابة كونه فرد منعزل ، منشغل بمصلحته الخاصة ، وبهذا تبدو الحياة السياسية وكأنها مجرد وسيلة غايتها المجتمع المدني" . إن ما يميز ماركس ، أنه استخدم مصطلح المجتمع المدني بطريقتين -كما يقول د.نايف سلوم-: الأولى وردت في "المسألة اليهودية" على الشكل التالي : إن الدولة السياسية هي حسب جوهرها ، حياة الإنسان النوعية-العامة بمعارضة حياته المادية (الخاصة) . كل افتراضات هذه الحياة الأنانية تواصل بقاءها في المجتمع المدني خارج دائرة الدولة ، ولكن كخصائص للمجتمع البرجوازي . وحيثما وصلت الدولة السياسية الى تفتحها الحقيقي ، يعيش الإنسان ، ليس فقط في الفكر ، في الوعي، بل في الواقع ، في الحياة، وجودا مزدوجا ، سماويا وأرضيا ، الوجود في الجماعة السياسية أو الاشتراك السياسي ، حيث يعتبر نفسه كائنا عاما ، والوجود في المجتمع المدني ، حيث يشتغل كإنسان خاص (في إطار علاقات وقوى الإنتاج الرأسمالية) ، يرى في البشر الآخرين محض وسائل ، يخفض ذاته الى مرتبة وسيلة محضة ، ويصير لعبة بيد قوى غريبة . الدولة السياسية هي إزاء المجتمع المدني روحانية بقدر ما السماء روحانية إزاء الأرض" . "أما في "الأيديولوجيا الألمانية" فإن ماركس يماثل بين المجتمع المدني وعلاقات الإنتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ، فالمجتمع المدني -حسب ماركس- هو جماع العلاقات التجارية والصناعية لمرحلة تاريخية محددة ، لكن لم يتم وعيه كصياغة نظرية ، إلا في القرن الثامن عشر ، عندما تخلصت الدولة من الامتياز الديني والعائلي" ، فالشرط الماركسي لنشوء الرأسمالية -كما يقول د.عزمي بشارة- هو استباقها بقيام المجتمع المدني ، بمفهوم مجتمع المدنية التجاري الذي يمتد بالتدريج ليحوِّل ملكية الأرض والزراعة الى ملكيات تجارية أيضا . وفي كتابه "رأس المال "يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويتبقى على مفهوم علاقات الإنتاج الاقتصادية الاجتماعية ، كمسرح تاريخي ، على اعتبار أن التاريخ أساسا ، هو الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة الى شكل آخر جديد ، الى أن نصل الى التشكيلة الرأسمالية ، والصناعة ، وصعود البرجوازية الحديثة ، حيث بات الصراع بين الملكية الخاصة ، وبين الملكية الجماعية (مع بداية الإرهاصات الثورية منتصف القرن التاسع عشر ، ثورات 1848 الديمقراطية) أمرا راهنا ، على أساس التحضير النظري لمجابهة السلطة البرجوازية ، وتحطيم سلطتها ومعها مجتمعها المغترب -مجتمعها المدني ، هكذا ينظر ماركس الى المجتمع المدني كوجود قائم غير واع لذاته ، ولهذا السبب ، يرى أن الطبقة البرجوازية السائدة ، تنظم سيطرتها في دولة ، أي تقيم دكتاتوريتها عبر الإكراه (أجهزة القمع ، القضاء ، الشرطة ، وأجهزة الأمن …الخ) من جهة ، وعبر الهيمنة بواسطة أجهزتها الأيديولوجية والتربوية والاقتصادية والنقابية من جهة أخرى ، واستنادا لهذا التحليل ، فإن ماركس نظر الى الحقل الأيديولوجي على أنه واسطة تزييف لحقيقة البنية الاقتصادية ولواقع ملكية ثروة المجتمع ، حيث تحاول الطبقة السائدة إقناع الطبقات الهامشية أو الفرعية ، بمعقولية الوضع القائم ، من هنا تبدأ حركة النقد عند ماركس بنقد الأيديولوجية السائدة ، نقد البنية الاجتماعية الاقتصادية على شكل نقد الاقتصاد السياسي ، ونقد الدولة والسياسة كدكتاتورية برجوازية من كونها سيطرة وهيمنة" . ولكن رغم كل ما تقدم ، فإن ماركس لم يغفل أبدا أهمية الانعتاق السياسي الذي حققته الثورة البرجوازية في عصر النهضة ، بل أنه نظر الى عملية الانعتاق السياسي ، كنقطة انعطاف مذهلة في التطور التاريخي ، وتقدما عظيما في إطار النظام الاجتماعي القائم ، وبوصول البرجوازية الى هذه النقطة -بعد تحطيم وإلغاء النظام الإقطاعي- بدأت بتطوير نمط إنتاجها الرأسمالي ، ورفعت شعارها الخاص ، شعار "المساواة" في الحقوق الخاصة للملكية الفردية في إطار المنافسة بين قوى البرجوازية في السوق الرأسمالي . "إن هذه "المساواة" تمخض عنها اليوم ، المزيد والمزيد من الفرز الطبقي ، وتحويل العالم الى مجتمع الخمس الثري وأربعة أخماس من الفقراء ، لقد تجلت أسمى أخلاقيات المجتمع المدني المعاصر في "بورصة الأوراق المالية" وفي "الاندماجات العملاقة للشركات المتعددة الجنسية" وفي "منظمة التجارة الدولية" ، وبالتالي فإن التحرر الإنساني المنشود لا يمكن الوصول إليه إلا باستتباع الثورة السياسية بثورة أخرى اجتماعية تأتي لتغلب نمط الملكية الخاص وتُحوِّل علاقات الإنتاج الى علاقات تقوم على أساس الملكية الجماعية أو العامة ، وإن شرط القيام بالثورة الاجتماعية كما يرى ماركس ، يتطلب منا إعادة دمج هذين المتحدين من جديد المتحد المدني/المتحد السياسي ، ليصبحا المتحد الاشتراكي/المتحد السياسي . ويتابع ماركس محذرا ، أنه إذا لم تقم الثورة الاجتماعية فسينتهي الأمر بمأساة سياسية ، إنه يضع بين أيدينا طريقين ، قد تنتهجهما البشرية ، فإما ثورة اجتماعية تلي الثورة السياسية ، وإما الاكتفاء بمرحلة الانعتاق السياسي وترسيخ المجتمع المدني البرجوازي" لصالح قوى الرأسمالية نحو مزيد من الهيمنة والتوسع والتحكم بمقدرات البشرية وتعميق المأساة السياسية لجميع الشعوب الفقيرة والمضطهدة في هذا الكوكب ، وفي مواجهة هذه الهيمنة ، يحدد ماركس بوضوح ، كيفية تحقيق هذا الهدف بقوله: "فقط عندما يدرك الإنسان وينظم قواه الخاصة كقوة اجتماعية فسوف تنفصل القوة الاجتماعية في شكل قوة سياسية ، وهنا فقط يكتمل الانعتاق الإنساني" ، ولهذا السبب "وقف ماركس بجانب كومونة باريس لأنها تعيد السلطة السياسية للمجتمع . فقد أظهرت الكومونة من خلال تحطيم سلطة الدولة البرجوازية ، كيف استطاعت الطبقة العالمة تطوير أشكال وجودها السياسي ، الأمر الذي يعادل شكلا جديدا للوجود الاجتماعي يضطلع فيه أعضاء المجتمع أنفسهم بوظائف الدولة المعتادة" . وبتحقق المجتمع الاشتراكي ، تنتفي العلاقات الرأسمالية وينتفي معها مجتمع الصراع الطبقي أو المجتمع المدني البرجوازي ، وقد عبر لينين (1870-1922) في "فكرته الرئيسة حول الديمقراطية ، التي تمثلت في ربطه العضوي بين الاقتصاد والسياسة ونشر الديمقراطية العامة في المجتمع والدولة والحزب ، وإجراء المتغيرات السياسية الواسعة التي تضمن إقامة الديمقراطية الاشتراكية ، ففي مؤلفه "الدولة والثورة" يرى لينين أن ديكتاتورية البروليتاريا يجب أن تكون دولة ديمقراطية بطريقة جديدة ، (لأجل العمال والجماهير الشعبية الفقيرة وغير المالكين بصورة عامة) ، وديكتاتورية بطريقة جديدة ضد البرجوازية وديمقراطيتها السياسية النخبوية الشكلية ، ذلك لأن الحديث عن المساواة التامة الشاملة ، وعن الديمقراطية "الخالصة" في المجتمع الرأسمالي ، (أو في المجتمع المدني البرجوازي) ، تحت مظلة الليبرالية ، ليس سوى تمويه برجوازي لهذا الواقع الذي لا يمكن نكرانه ، وهو أن المساواة بين المُسَتَغَلِّين والمُستَغِلِّين أو بين من يملك ومن لا يملك مستحيلة ، ليس في المستوى الاجتماعي -الاقتصادي فحسب ، بل في المستوى السياسي بالدرجة الأولى ، ذلك أن الأيديولوجيا الليبرالية تعتمد على وظيفتها العملية الاجتماعية أكثر من اعتمادها على وظيفتها النظرية ، إنها إطار ضروري للحياة الاجتماعية من زاوية أصحاب الثروات ، مالكي الثروة ووسائل الإنتاج ، "لقد قدمت الليبرالية صورة عامة للمجتمع بوصفه كلا يتألف من ذوات فردية حرة ، صورة لإطار شامل ، يضم قطعا وأجزاء ودوائر مختلفة ومترابطة في آن واحد ، وهذا الإطار الأيديولوجي هو الناظم الرئيسي للنظام الرأسمالي ، الذي أحلَّ لأول مرة ، على أرض الواقع الفعلي ، العقد القانوني بين أفراده ، محل المكانة الاجتماعية الموروثة (تحت عنوان المجتمع المدني والديمقراطية السياسية) ، وفي هذا النظام ، أصبح جمع الثروة لذاتها هو المحرك الأساسي للنشاط الإنساني باسم الحرية الفردية وحرية السوق والمنافسة" ونتيجة لكل ذلك نجحت القوى الليبرالية -بوسائل متعددة- في خديعة الوعي الجماهيري الذي انطلت عليه حالة التطابق الشائعة -والتي يروج لها بعض المثقفين في بلادنا- بين الليبرالية والديمقراطية ، رغم أن ذلك التطابق المزعوم يرفضه التتبع التاريخي لنشأة وتطور مفهوم الليبرالية ، ففي سياق تطورها التاريخي "ظلت الليبرالية ترتكز على أسس معادية للديمقراطية طوال نشأتها ، ولم تكن هناك رابطة جوهرية تجمعها ، ولن نجد ليبراليا واحدا دافع أيام النشأة المفترضة عن حق أغلبية الشعب في التصويت أو الترشيح للمجالس التنفيذية المنتخبة ، ويرجع ذلك الى أن الأيديولوجيا الليبرالية ، وضعت التزامها الأصيل ، رهنا بحق الفرد في ملكية حرة لا تعيقها العوائق ، فالليبرالية في جوهرها ظاهرة رأسمالية تنتمي الى حرية الملكية والبيع والشراء ومنطقها الحتمي يؤدي الى التفاوت الصارخ في الملكية والدخل لا الى المساواة ، فلو تحققت درجة من المساواة لما كان للمنافسة وتراكم رأس المال أي حافز يستحثهما . ذلك أن "الليبرالية" منذ البداية كانت تحارب في جبهتين : لقد مثلت مصالح البرجوازية التجارية والصناعية في صراعها ضد الحكم المطلق ومؤسساته التقليدية ، كما حاولت الحد من أي مطالب ديمقراطية واسعة النطاق بعيدة المدى من جانب راديكالية البورجوازية الصغيرة والجماهير الشعبية" . "لكن الناس -كما يقول لينين بحق- كانوا دائما وسيبقون دائما ضحايا للتضليل والتضليل الذاتي في السياسة ، الى أن يتعلموا أن يجدوا وراء كل جملة أو تصريح أو وعد إن كان أخلاقيا أو دينيا أو سياسيا ، مصالح هذه أو تلك من الطبقات" . على أي حال ، إن انعدام المساواة ، ظاهرة موضوعية ، وسمة أساسية من سمات المجتمع المدني الليبرالي البرجوازي ، فهو -في جوهره- مجتمع الصراع الطبقي والصراع السياسي في آن معا ، ولكن دور الصراع السياسي يكمن في توجيه وتطوير وتكريس المصالح الاقتصادية من ناحية ، وإحكام السيطرة على الأجهزة عموما ، وعلى أجهزة أو بنية السلطة الأيديولوجية بوجه خاص ، لضمان إدامة سيطرة الطبقة السائدة بغض النظر أو بالرغم من الديمقراطية السياسية الشكلية السائدة فيه . وبقيام الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917 وتأسيس الاتحاد السوفيتي ومنظومة البلدان الاشتراكية ، تكرس مفهوم المجتمع المدني وتطبيقاته في إطار بلدان المعسكر الرأسمالي كمقولة أساسية من البنية الفوقية للمجتمعات الرأسمالية ، تمحورت في الدفاع عن الليبرالية وحرية السوق وحرية المنافسة والديمقراطية السياسية الشكلية في تلك المجتمعات من ناحية ، واستخدمت فيه كوسيلة أيديولوجية في الهجوم على الماركسية-اللينينية ومنظومة البلدان الاشتراكية عبر شعارات "الحرية" و"الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" انطلاقا من المصالح الرأسمالية وفي خدمتها ، سواء في مرحلة الحرب الباردة وما سبقها ، أو في مرحلة العولمة الرأسمالية الراهنة . وهذا ما تنبه إليه الفيلسوف والمناضل الأممي أنطونيو غرامشي (1891-1937)الذي "استعار مصطلح المجتمع المدني والمجتمع السياسي من منظومة الفكر البرجوازي ، وتحديدا من كتابات هيجل ، وقام بتحويل هذين المفهومين الهيجليين تماما مثلما فعل كل من ماركس وانجلز مع مفاهيم هيجيلية أخرى ، وكانت نتيجة هذا التحويل ، أن أصبح تعبير المجتمع المدني مقطوع الصلة بدلالاته السابقة ، فبعد ما كان يشير الى دائرة التنافس الاقتصادي بين الأفراد ، أصبح جزءا من البنية الفوقية يشير به "غرامشي" الى المؤسسات الطبقية والاجتماعية التي تختص بالوظائف الأيديولوجية . لقد تأسس مشروع جرامشي النقدي على محاربة تأويلات معينة للماركسية تنكر أي دور فعال للبنية الفوقية ، وتتعامل مع الوعي الاجتماعي بوصفه مجرد انعكاس سلبي للقاعدة الاقتصادية ، وبالتالي فقد عالج جرامشي موضوعات البنية الفوقية بوصفها تعبيرا عن إرادة جماعية وطبقية ، فالسيادة الطبقية التي تمارسها الطبقات الحاكمة في الغرب الرأسمالي لا تقوم على قمع الأجساد فقط ، بل على أسر العقول أيضا ، من خلال إشاعة أنماط معينة من الثقافة والقيم ، وعلى هذا الأساس ، يمكن فهم اهتمام جرامشي بقضايا الثقافة والمثقفين ودور الحزب (الذي يطلق عليه صفة المثقف الجمعي) ، كما يمكن فهم رؤيته للعمل السياسي وتأثيره في البنية الفوقية ، حيث يقول ، أن هدف العمل السياسي هو إخراج الجماهير من حالة الركود والاستنقاع التي تعيشها ، ولن يكون ذلك ممكنا ما لم يتم رفع هذه الكتلة الجماهيرية الى مستوى البنية الفوقية كميدان للفعل الجماعي والإدارة الخلاقة ، أي ارتقاء وعي البشر من وعي البنية التحتية الى وعي البنية الفوقية ، وهذا يعني أيضا الانتقال من الموضوعي الى الذاتي أو من "الضرورة" الى "الحرية"" . والطريق الى ذلك هو تفعيل البعد المعرفي-الثقافي داخل الحزب بهدف إيجاد وبلورة العلاقة العضوية بين شعارات الحزب السياسية وأيديولوجيته الماركسية من ناحية وبين قواعد وكوادر الحزب وجماهيره ، لتكوين مثقفين عضويين من أصول كادحة فقيرة أو بروليتارية ، للوصول الى الوحدة بين القوى المادية والأيديولوجيا الكفيلة وحدها لخلق ما يسميه جرامشي ب"الكتلة التاريخية" ، وهنا تكمن الأهمية القصوى لعملية التثقيف وأدواتها "للانتقال بوعي العمال (والكادحين) من حالة الوعي بالبنية التحتية (الوعي الاقتصادي العفوي) الى حالة وعي البنية الفوقية (الوعي السياسي والمعرفي والأخلاقي)" . وعبر هذا الطريق وحده يمكن الانتقال بالصراع الطبقي من القاعدة الاقتصادية أو البنية التحتية ، الى مجال الصراع السياسي والحزبي الأيديولوجي . ولا يتوقف جرامشي عند هذا الحد ، بل "ينتقل الى الجزم في أن الطبقة العاملة تستطيع أن تصل الى السلطة فقط بعد أن يحقق فكرها هيمنة ثقافية لأفكار العدالة الاجتماعية" . ولكن كيف يمكن تحقيق هيمنة ثقافية لأفكار العدالة الاجتماعية الجديدة على المجتمع ، دون سيطرة اقتصادية أو سياسية عليه بواسطة رأس المال أو بواسطة الدولة؟ ويجيب عزمي بشارة على سؤاله بقوله "هنا تبرز أهمية مفهوم المجتمع المدني عند جرامشي ، المرتبط ارتباطا مباشرا بمفهوم الهيمنة مقابل مفهوم السيطرة . هنالك حيز اجتماعي تطور في ظل الرأسمالية هو ساحة الهيمنة الثقافية على المجتمع ، وهذا الحيز ليس حيز الاقتصاد ، بل هو جزء من المبنى الفوقي ، ولكنه ليس ضمن حيز الدولة ، فالمجتمع المدني هنا ، هو بالمفاهيم الماركسية ، حسب جرامشي ، مبنى فوقي ، وهو المبنى الفوقي الذي لا تتم فيه مجرد انعكاسات للصراع الاقتصادي ، بل إنه المجال الحاسم نحو تأجيج الصراع الاقتصادي وحسمه عبر الحزب الاشتراكي تحديدا ، القادر على الهيمنة الثقافية ، وعلى التحول من ثقافة النخبة الى ثقافة الجماهير" وصولا الى الهيمنة الأيديولوجية الكفيلة وحدها -كما يقول جرامشي- بإزالة الفرق بين الدولة والمجتمع ، وبالمقابل ، حينما تضعف الأيديولوجيا الثورية عن التحول الى ثقافة الهيمنة ، يزداد استبداد الدولة وعنفها . وبنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، غاب أو توارى مفهوم المجتمع المدني طوال مرحلة الحرب الباردة ، التي امتدت حتى انهيار منظومة البلدان الاشتراكية ومنظومة التحرر القومي من جهة ، والانحسار أو التراجع المريع -ولكن المؤقت- للبنية الأيديولوجية لقوى الاشتراكية والتحرر القومي من جهة ثانية ، وفي سياق هذا التحول المادي الهائل الذي انتشر تأثيره في كافة أرجاء كوكبنا بعد أن تحررت الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، وبتأثير التطور النوعي الهائل في مجال الاتصالات وثورة المعلومات والتقدم التكنولوجي ، وقيام التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة ، كان لا بد من تجديد نظم السيطرة السياسية والاقتصادية والمعرفية في إطار المركز الرأسمالي الغربي تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية كنظام مسيطر بصورة أحادية بما يسمى اليوم بنظام العولمة ، الذي تكرس -في اللحظة التاريخية المعاصرة- بفضل هذا المناخ المهزوم والمنكسر في بلدان العالم الثالث أو الأطراف ، وأصبح جاهزا للاستقبال والامتثال للمعطيات الليبرالية الجديدة وآلياتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية تحت عناوين : تحرير التجارة العالمية ، إعادة الهيكلة ، والتكييف والخصخصة ، والانفتاح ، وتعميق التبعية والخضوع والتخلف ، تحت ستار زائف من الشكل الديمقراطي الليبرالي ، هدفه المزيد من إحكام السيطرة على بلدان العالم عموما ، والعالم الثالث على وجه الخصوص ، للأخذ بالشروط الجديدة التي تمثل "أول مشروع أممي ، تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي من موقع ضعيف ، بما يحقق مزيدا من إضعاف جهاز الدولة ، وحرمانها من الفائض الاقتصادي ، وهما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تعتمد عليهما الليبرالية الجديدة" . وبنشوء هذا الفراغ السياسي ، الاقتصادي ، الأيديولوجي ، أصبحت الطريق ممهدة أمام المخططات التوسعية للرأسمالية ، صوب المزيد من السيطرة على مقدرات العالم بأسره ، ويتجلى هذا الأمر بوضوح في منطقتنا العربية ، وبالذات على مشروعنا الوطني الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال ، عبر هذا التحالف العضوي بين الإمبريالية الأمريكية المعولمة والحركة الصهيونية . ففي ظل هذه الأوضاع المتدهورة -في النظام العربي ونظام السلطة الفلسطينية- الناتجة عن عمق أزمة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، المستفحلة في بلادنا ، والتي أدت -الى جانب ضعف العامل الذاتي النقيض أو البديل الوطني الديموقراطي الشعبي- الى مزيد من الإلحاق والتبعية ، وتدمير أو تفكيك الهوية الوطنية والقومية ، كان لابد لاستراتيجية العولمة والحركة الصهيونية في بلادنا أن تنجح -في اللحظة الراهنة- في إخضاع منطقتنا لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكي -الصهيوني المعولم- الذي ازداد توحشا بعد أحداث "سبتمبر 2001 ، وهي مقتضيات استراتيجية تسعى الى تحقيق هدفين اثنين متكاملين هما : تعميق السيطرة الاقتصادية على مقدراتنا العربية من ناحية وتدمير قدرة الدول والشعوب العربية على المقاومة بكل أشكالها النضالية والسياسية من ناحية ثانية ، متذرعة بأحدث المبررات الزائفة تحت مظلة "مقاومة الإرهاب" وجوهره ، مقاومة وتركيع كل إمكانية أو حركة تستهدف استنهاض عوامل القوة والتحرر الوطني والقومي الديمقراطي ، والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية ، والوحدة العربية ، بمثل ما تستهدف تكريس تبعية شعوب هذه الأمة وتخلفها من ناحية ، وإعادة تكيفها بما يضمن إلحاقها بصورة شبه مطلقة ، تحت إدارة نظام السيطرة الأمريكي-الصهيوني ، الذي يسعى -بصورة يائسة لا مستقبل لها- تجديد الدور الوظيفي للعدو الصهيوني ودولته بما يتوافق مع مستجدات المصالح الاستراتيجية الأمريكية الراهنة ، بحيث تصبح إسرائيل "دولة مركزية ، أو دولة إمبريالية صغرى" في المنطقة العربية والإقليم الشرق أوسطي ، يحيطها مجموعات من "دول الأطراف" العربية المتكيفة ، التابعة ، المتخلفة، مسلوبة الإرادة ، بما يضمن ويسهل "عملية التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي والاندماج الإسرائيلي" في المنطقة العربية ، تمهيدا للقضاء على منظومة الأمن القومي العربي كله من جهة ، وبما يعزز السيطرة العدوانية الإسرائيلية على مجمل الأراضي الفلسطينية والجولان السورية المحتلة والتحكم في مستقبلها من جهة ثانية . في هذا المناخ المهزوم والمأزوم في بلداننا العربية ، كما في بلدان العالم الثالث عموما ، انساق الكثيرون ، من أوساط القوى والأحزاب السياسية والمثقفين ، بهذه الدرجة أو تلك من الحماس والوعي أو بهذا الحجم أو ذاك من المصالح الخاصة من ناحية ، أو العمى أو عدم الوضوح الأيديولوجي من ناحية ثانية نحو شعار "المجتمع المدني" في إطار الليبرالية الجديدة الوافدة الى بلادنا بصورة طارئة وفجة ، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ، وانحسار المشروع القومي العربي ، وبروز الهيمنة القطبية الأحادية الأمريكية في نظام العولمة الراهن وأيديولوجيته الرئيسة المهيمنة : الليبرالية الجديدة ، التي وصفها "الزعيم الليبرالي الجديد "ملتون فريدمان" في كتابه "الرأسمالية والحرية" بقوله : بما أن جني الأرباح هو جوهر الديمقراطية ، فإن أي حكومة تنتهج سياسات معادية للسوق هي حكومة معادية للديمقراطية ، فالديمقراطية مسموح بها ما دامت سيطرت رجال الأعمال بعيدة عن المناقشة أو التغيير . هكذا يصبح النظام الليبرالي الجديد -كما يقول المفكر الأمريكي "نعوم تشومسكي"- هو النموذج السياسي والاقتصادي الذي يعرّف به عصرنا لكي يتم تحقيق أقصى الأرباح" . وفي هذا السياق ، فإن من المفيد والضروري ، إثارة الحوار العميق والموضوعي مع أولئك الذين انبهروا بالمظهر الخارجي لشعار المجتمع المدني الليبرالي ، وأن نتوجه إليهم بعيدا عن أصحاب المصالح من دعاة الليبرالية أو "مثقفيها" في إطار المنظمات غير الحكومية وغيرها ، المنتشرة على مساحة الوطن العربي ، والتي يزيد تعدادها عن (75 ألف مؤسسة أو منظمة غير حكومية) ، لنؤكد ونوضح عبر هذا الحوار ، أبعاد ومكونات هذا المشروع الليبرالي الأممي المعولم ، والتي يحددها د.رمزي زكي في ثلاثة أبعاد رئيسية هي : البعد الاقتصادي ، والبعد الأيديولوجي ، والبعد السياسي ، ففي تعريفه لهذه الأبعاد يقول "إن البعد الاقتصادي يستند على السلفية الاقتصادية ، أو المدرسة الليبرالية الجديدة (النيو كلاسيكية) التي ترى أن الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي ، هي أفضل النظم وقمة التطور ونهاية التاريخ . أما البعد الأيديولوجي فيستند على الفلسفة الفردية النفعية ، التي تؤكد على الحقوق الفردية في مجال الملكية والاستثمار والتجارة والعمل ، وأخيرا البعد السياسي -لهذا المشروع الليبرالي المعولم- الذي يستند على الديمقراطية الليبرالية بمعناها الغربي" ، وهذه الأبعاد هي التي يرتكز ، عليها وينطلق من مضمونها الجوهري وعلاقاتها وآلياتها الداخلية ، مفهوم المجتمع المدني في حركته المعرفية والسياسية عبر شخوص وأطر متنوعة أهمها المنظمات غير الحكومية في بلادنا ، التي تسهم -بوعي أو بغير وعي- في تحقيق الهدف الكامن خلف هذه الشعارات ، وهو هدف يتلخص -كما يقول سامر الأيوبي- في "قنونة العلاقات الاقتصادية السائدة في بلادنا (وهي علاقات رأسمالية يغلب عليها الطابع الطفيلي) وإعطاءها الشكل المشروع ، الحقوقي ، وهو عمليا الشكل الحقوقي الذي تمارس به الاحتكارات الأمريكية والأوروبية نشاطها الاقتصادي في دولها ، هذا هو جوهر ما يريده الداعين للمجتمع المدني والليبرالية ، وما يترافق مع هذا الطرح من حريات ديمقراطية مقاسه بدقة لكل فرد (وفق ما يملك) وفي حدود أن لا يشكل خطرا يمس المصالح العامة للطبقات المُستغِلة المصانة والمقدسة وفقا للقانون والأنظمة" . إن رفضنا لمنطق الليبرالية الجديدة وآلياتها وديمقراطيتها السياسية الشكلية ، ينبع من قناعتنا وإدراكنا بصورة موضوعية ، بأن ذلك المنطق بكل محدداته الاقتصادية والسياسية والفكرية ، لن يؤدي في بلادنا سوى الى مزيد من تهميش الجماهير الشعبية وفقدانها لتحررها الذاتي والسياسي على المستويين الوطني والقومي ، والى مزيد من المعاناة والحرمان في صفوفهم بما يدفع الى الاعتراف الاكراهي بمشروعية اللامساواة ، وغياب مفاهيم وآليات العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والحريات الحقيقية من ناحية ، والى فرض حالة من الإحباط واليأس وخنق روح الصمود ومقاومة العدو الصهيوني والإمبريالية الرأسمالية المعولمة ، وتدمير المشروع الوطني ، وإعاقة النهوض القومي من ناحية ثانية . لذلك فإن الدعوة الى التمسك بأسس ومبادئ الديمقراطية السياسية والاجتماعية ، التي تتكرس في خدمة قضايا التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي ، ولا تقتصر آلياتها على التعددية السياسية وحق التعبير والحريات الفردية فحسب ، بل تمتد بعمق ووضوح نحو تحقيق الاستقلال الوطني وحماية سيادة الوطن ، والتقدم الاقتصادي ، والعدالة الاجتماعية ، والنهوض القومي-الاشتراكي .











الجزء الثاني : الأزمة الاجتماعية في بلدان الوطن العربي وغياب الأسس المادية لمفهوم المجتمع المدني وآفاق المستقبل في مقدمة الطبعة الأولى من "رأس المال" ، كتب ماركس في عام 1867 يقول: "إلى جانب الشرور الحديثة ، أو الآلام في العهد الحالي ، علينا أن نتحمل سلسلة طويلة من الأمراض الوراثية الناتجة عن بقاء أساليب إنتاج بالية ، تخطاها الزمن ، مع ما يتبعها من علاقات سياسية و اجتماعية أضحت في غير محلها زمنياً ، و التي تولدها تلك الأساليب ، ففي مثل هذه الأحوال ، ليس علينا أن نعاني فقط الآلام بسبب الأحياء ، و إنما بسبب الموتى أيضاً : فالميت يكبل الحي" ، هذا التحليل الذي قصد به ماركس الدولة الألمانية آنذاك ، ينطبق على الوضع العربي الداخلي عموماً ، و على جوهر الأزمة الاجتماعية فيه بشكل خاص . و الإشكالية الكبرى أن المجتمع العربي يتعرض اليوم لهذه الأحوال المأزومة بكل أبعادها ، في اللحظة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة ، الى المرحلة الجديدة أو العولمة ، بتسارع غير مسبوق ، و بمتغيرات نوعية تحمل في طياتها ، في الحاضر و المستقبل تحديات غير اعتيادية ، لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بامتلاك أدواتها العلمية و المعرفية أولاً عبر أحكام سيطرة الحي (المدينة) على الميت (الصحراء) ، "فالاستلاب الأيديولوجي بشكليه السلفي و الاغترابي هو أبرز الآليات الداخلية التي تعيد إنتاج التأخر ، و تعيد إنتاج الاستبداد ، و تحافظ على البنى و العلاقات و التشكيلات القديمة ما قبل القومية ، فالعلاقة بين المستوى الأيديولوجي السياسي ، و المستوى الاجتماعي الاقتصادي ، هي علاقة جدلية ، تُحوِّل كل منهما الى الآخر في الاتجاهين ، آخذين بالحسبان أيضاً أن المستوى السياسي محدد و محكوم بطابع الوعي الاجتماعي السائد" . بهذا المدخل ، نبدأ في الحديث عن أزمة المجتمع العربي ، التي نرى أنها تعود في جوهرها إلى أن البلدان العربية عموماً لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً ، و لا تنتسب له جوهرياً ، و ذلك بسبب فقدانها ، بحكم تبعيتها البنيوية ، للبوصلة من جهة ، و للأدوات الحداثية ، الحضارية و المعرفية الداخلية التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي العربي و مساره و علاقته الجدلية بالحداثة و الحضارة العالمية أو الإنسانية . فبالرغم من دخولنا القرن الحادي و العشرين ،إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة ، أو في زمان "ما قبل الرأسمالية" وبالتالي ما قبل المجتمع المدني ،رغم تغلغل العلاقات الرأسمالية في بلادنا ، و الشواهد على ذلك كثيرة ، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير ، بمنطلقاتها العلمية و روحها النقدية التغييرية ، و إبداعها و استكشافها المتواصل في مناخ من الحرية و الديمقراطية ، ففي غياب هذه السمات يصعب إدراك الوجود المادي و الوجود الاجتماعي و الدور التاريخي الموضوعي للقومية أو الذات العربية في وحدة شعوبها ، ووحدة مسارها و مصيرها ، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي العربي . و لعلنا نتفق أن السبب الرئيسي لهذه الإشكالية الكبرى ، لا يكمن في ضعف الوعي بأهمية التنوير العقلاني ، أو ضعف الإدراك الجماعي بالدور التاريخي للذات العربية ، فهذه و غيرها من أشكال الوعي ، هي انعكاس لواقع ملموس يحدد وجودها أو تبلورها ، كما يحدد قوة أو ضعف انتشارها في أوساط الجماهير ، و بالتالي فإن الواقع العربي الراهن ، بكل مفرداته و أجزاءه و مكوناته الاجتماعية و أنماطه التاريخية و الحديثة و المعاصرة ، هو المرجعية الأولى و الأساسية في تفسير مظاهر الضعف و التخلف السائدة بل و المتجددة في مجتمعاتنا ، إذ أن دراسة هذا الواقع ، الحي ، بمكوناته الاجتماعية و الاقتصادية تشير بوضوح إلى أن العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية السائدة اليوم في بلداننا العربية هي نتاج لأنماط اقتصادية /اجتماعية من رواسب قبلية و عشائرية و شبه إقطاعية ، و شبه رأسمالية ، تداخلت عضوياً و تشابكت بصورة غير طبيعية ، و أنتجت هذه الحالة الاجتماعية /الاقتصادية المعاصرة ، المشوهة ، فكيف يمكن أن نطلق على هذا الواقع صفة المجتمع المدني؟ فالمعروف أنه بالرغم من تطور بعض أشكال العلاقات ذات الطابع الرأسمالي في بعض المجتمعات العربية ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عموماً ، و بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بشكل خاص ، إلا أن هذه العلاقات الرأسمالية الجديدة لم تستطع إزاحة العلاقات شبه الإقطاعية ، و القبلية السائدة ، و المسيطرة ، و بقيت حيازة و امتلاك الأراضي الزراعية ، مصدراً أساسياً للوجاهة و المكانة الاجتماعية و السلطة السياسية في بلدان الوطن العربي حتى منتصف القرن العشرين ، حيث "تدنت هذه المكانة ، بتدني أهمية ملكية و حيازة الأرض باعتبارها العمود الفقري للتكوينة الطبقية ، و ذلك بسبب تتابع الانقلابات العسكرية ( و أهمها حركة 23 يوليو 1952 في مصر) في العديد من البلدان العربية … و قيام الأنظمة الوطنية و ما تبع ذلك من تصفية للإقطاع ، و تطبيق الإصلاح الزراعي من ناحية ، و بسبب اكتشاف النفط و بروز أهمية رأس المال (التجاري و الخدمي) في التكوين الطبقي" ،من ناحية ثانية و أشكاله الجديدة التي تداخلت بدورها مع الأنماط القبلية ، شبه الإقطاعية السابقة ، بل إننا لا نبالغ في القول بأن هذه الأشكال أو التكوينات الطبقية شبه الرأسمالية الجديدة ، انبثقت في جزء هام منها من رحم التكوينات الاجتماعية القديمة ، وهذه بدورها استطاعت التكيف مصلحيا مع "العلاقات الرأسمالية الجديدة" ، من حيث الشكل أو التراكم الكمي الرأسمالي فقط ، دون أن تقطع علاقاتها مع جوهر التشكيلات الاجتماعية القديمة ، و موروثاته القيمية و المعرفية المتخلفة ، التي وجد فيها الاستعمار الغربي ، مناخاً مهيئاً و جاهزاً لتحقيق أهدافه و مصالحه في بلادنا ، فلم يتعرض لأي من هذه الموروثات و رموزها الطبقية ، التي شكلت في معظمها سنداً للظاهرة الاستعمارية و لرأس المال الأجنبي في عملية دمج بلداننا العربية و تكريس تبعيتها للنظام الرأسمالي العالمي ، أثناء و بعد الحرب العالمية الثانية و إلى اليوم ، دون أن نغفل بالطبع ، مرحلة النهوض الوطني و القومي في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي ، التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، منفرداً عبر شخصيته و دوره الكاريزمي و إيمانه الشديد بالمبادئ التحررية ، و القومية ، و لاحقاً بالاشتراكية ، دون الاستعانة بالمؤسسات الديمقراطية ، و التعددية الحزبية ، و تفعيل العمل السياسي في أوساط الجماهير التي عاش حياته من أجلها ، و لذلك كانت هزيمة حزيران 1967 بداية النهاية لمرحلة التحرر القومي الديمقراطي ، خلقت المناخ العام ، و المقومات اللازمة لإعادة إحياء التشكيلات و التكوينات الاجتماعية الطبقية القديمة و المستحدثة ، بصور و أشكال معاصرة ، تتوافق مع شروط الانفتاح و التحالفات السياسية العربية الرسمية التي تولت قيادتها أو توجيهها الأنظمة الأكثر رجعية و تخلفاً و تبعية في بلادنا ، وبالتالي يصعب في بلادنا -إن لم يكن متعذرا-تلمس أو إدراك الوجود المادي والدور الموضوعي التاريخي للطبقة البرجوازية عموما ، والبرجوازية الوطنية خصوصا* . و اليوم و نحن في مطلع الألفية الثالثة ، تتعرض مجتمعاتنا العربية ، من جديد ، لمرحلة انتقالية لم تتحدد أهدافها النهائية بعد ، رغم مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح و الفئات الرأسمالية العليا ، بكل أشكالها التقليدية و الحديثة ، التجارية و الصناعية و الزراعية ، و الكومبرادورية و البيروقراطية الطفيلية ، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي ، و تحول دون أي تحول ديمقراطي حقيقي في مساره ، عبر اندماجها الذيلي التابع للنظام الرأسمالي المعولم الجديد من جهة ، و تكريسها لمظاهر التبعية و التخلف و الاستبداد الأبوي على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى ، من خلال التكيف و التفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الانفتاح و الخصخصة خلال العقود الثلاثة الماضية ، و بين النمط القبلي /العائلي ، شبه الإقطاعي ، الريعي ، الذي ما زال سائداً برواسبه و أدواته الحاكمة أو رموزه الاجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث . إن مخاطر هذا النمط المشوه من العلاقات الاقتصادية تنعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية العربية بما يعمق الأزمة الاجتماعية ، و اتساعها الأفقي و العامودي معاً ، خاصة مع استشراء تراكم الثروات غير المشروعة ، و أشكال "الثراء السريع" كنتيجة مباشرة لسياسات الانفتاح و الخصخصة ، و الهبوط بالثوابت السياسية و الاجتماعية الوطنية ، التي وفرت مقومات ازدهار اقتصاد المحاسيب و أهل الثقة ، القائم على الصفقات و الرشوة و العمولات بأنواعها ، حيث يتحول الفرد العادي الفقير إلى مليونير في زمن قياسي ، و هذه الظاهرة شكلت بدورها ، المدخل الرئيسي لتضخم ظاهرة الفساد بكل أنواعه ، في السياسة و الاقتصاد و الإدارة و العلاقات الاجتماعية الداخلية ، بحيث تصبح الوسائل غير المشروعة ، هي القاعدة في التعامل ضمن إطار أهل الثقة أو المحاسيب ، بعيداً عن أهل الكفاءة و الخبرة ، و دونما أي اعتبار هام للقانون العام و المصالح الوطنية ، مما يحول دون ممارسة الحد الأدنى من مفهوم المجتمع المدني أو تطبيقاته السياسية بحكم استعمال الاستبداد الناجم عن استعمال الفساد . و مما هو جدير بالحس بالمسؤولية ، أو بالتأمل –كحد أدنى- ليس الخطر الناجم عن هذه الظواهر فحسب ، بل أن تصبح هي القاعدة التي تحكم أو تحدد مسار و طبيعة العلاقات الاجتماعية و السياسية في مجتمعاتنا العربية ، حينئذ تصبح "مؤسسة" الفساد هي التي تملك السيطرة على دفة القيادة في هذا البلد أو ذاك ، و توجيهها وفق قواعد إدارة الأزمة بالأزمة ، و هنا ينتقل الحس بالمسؤولية ، إلى ضرورات التغيير الديمقراطي المطلوب في مواجهة هذا الوضع المأزوم ، الذي تفرضه طبيعة أزمة التحرر الوطني والقومي ، بحكم أنها تعبير عن أزمة هذا التطور المشوه الذي فرضته حالة التبعية البنيوية للإمبريالية ، حسب تعبير المفكر الشهيد مهدي عامل –بحيث "تصبح الطبقة المسيطرة أو نظامها في تناقض بين السير في منطق الحركة التحررية الديمقراطية ، و هو منطق معادٍ لها ، و بين السير ضده (و النتيجة واحدة) ، حيث بات السير في منطق التحرر يضع هذه الطبقة (أو التحالف أو النظام) في تناقض مع مصالحها الطبقية ، فيقتضي بالتالي بضرورة زوال سيطرتها الطبقية ، و كذلك الأمر بالنسبة لسيرها ضد منطق الحركة التحررية حيث تفقد هذه الطبقة التي هي البورجوازية الكولونيالية كل مبرر لوجودها في موقع القيادة" . و لكن الإشكالية الكبرى ، أنه في موازاة هذه الأحوال و المتغيرات الاقتصادية و الاجتماعية المحلية الداخلية المأزومة ، تراجعت أحزاب وقوى التغيير الديمقراطي في بلداننا (وهي أهم مكونات المجتمع المدني) ، إلى الخلف بصورة مريعة ، خاصة القوى القومية و اليسارية منها ، التي لم تستطع –حتى اللحظة- بلورة أو إنتاج صيغة معرفية ، سياسية اقتصادية اجتماعية ، علمية وواقعية ، قادرة على رسم مستقبل المجتمع العربي و الخروج من أزمته ، و قد ترك هذا التراجع آثاره الضارة في أوساط الجماهير ووعيها العفوي ، التي وجدت في الحركات السياسية الدينية ملاذاً و ملجأ يكاد يكون وحيداً ، يدفعها الى ذلك نزوعها الى النضال ضد العدو الرئيسي إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية من جهة ، و النضال من أجل الخلاص من كل مظاهر المعاناة و الحرمان و الفقر و مواجهة الظلم الطبقي و الاستبداد السياسي الداخلي من جهة أخرى . ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم ، زمن الحداثة و العولمة و ثورة العلم و المعلومات و الاتصال ، يشهد مجتمعنا العربي عودة الى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه ، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد ، فهو الى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية و الحمائلية و الطائفية ، و الأصولية و التعصب الديني ، يوصف اليوم بحق على أنه "مجتمع شديد التنوع في بنيته و انتماءاته الاجتماعية ، أبوي ، يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد ، مرحلي ، انتقالي ، تراثي ، تتجاذبه الحداثة و السلفية ، شخصاني في علاقاته الاجتماعية يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية و التكنولوجية ، و بالتالي مرحلة ما قبل الحداثة" . أما على الصعيد الداخلي الاجتماعي ، فإن "الفجوات بين الطبقات الثرية والميسورة والمحرومة ، تزداد اتساعا وعمقا ، وفي ظل هذه البنية الطبقية الهرمية التي تحتكر فيها القلة السلطة وثروات البلاد ، وتشغل الطبقة الوسطى وسط الهرم ، وتتكون القاعدة من غالبية السكان (الجماهير الشعبية الفقيرة) ، يعاني الشعب حالة تبعية داخلية شبيهه بالتبعية الخارجية ومتممة لها ، فتمارس عليه وضده مختلف أنواع الاستغلال والهيمنة والقهر والإذلال اليومي" . وفي ظل هذه الأوضاع أو السمات الاجتماعية "يعيش الإنسان في المجتمع العربي على هامش الوجود والأحداث لا في الصميم ، مستباحا معرضا لمختلف المخاطر والاعتداءات ، قلقا حذرا باستمرار من احتمالات السقوط والفشل والمخاطر ، تحتل السلع والمقتنيات والاهتمامات السطحية روحه وفكره ، يفكر ، إنما ليس بقضاياه الأساسية أو العامة ، ينفعل بالواقع والتاريخ أكثر مما يعمل على تغييرهما ، إنه إنسان مغَّرب ومغترب عن ذاته ، ولأن إمكانات المشاركة نادرة وضيقة ، لا يجد من مخرج سوى بالخضوع أو الامتثال القسري أو الهرب" . هذا التعميم في وصف حياة الإنسان العربي ، والقريب من الواقع الى درجة كبيرة ، تكمن قيمته –من وجهة نظر موضوعية- في تحفيز القوى القومية التقدمية العربية لدراسة واقعها الاجتماعي ومسار تطوره الاجتماعي وخصوصياته التي اختلفت من حيث النشوء التاريخي للشرائح والفئات الرأسمالية بين هذا القطر أو ذاك ، ولكن هذا الاختلاف في ظروف النشأة لهذه الشرائح ومنابعها وجذورها ، لم يعد قائما في لحظة معينة من التطور المعاصر للبلدان العربية ، الذي بات متشابها الى حد كبير في كافة هذه البلدان .

فبالرغم من الاختلاف في ظروف النشأة التاريخية للشرائح الرأسمالية العربية العليا وتباين أشكالها كما يقول د.محمود عبد الفضيل "حيث نشأت في مصر من أصول زراعية وإقطاعية واضحة ، بينما نشأت في سوريا عبر ارتباطها أساسا بالتجارة في المناطق الحضرية والمدن الكبرى ، وفي السودان ارتبطت نشأتها بنمو التجارة القافلية البعيدة المدى في أفريقيا ، ونشأت في العراق من تداخل التجارة والإقطاع معا"  ، إلا أن "تزاوج رأس المال  الأجنبي مع الدولة الكولونيالية ، وكذلك مع دولة "ما بعد الاستقلال" ، لعب أدوارا مهمة في تسهيل عملية توسع ونمو البورجوازيات المحلية في معظم البلدان العربية ، الى جانب الدور الهام الذي لعبه رأس المال الأجنبي تاريخيا ، "ورأس المال الدولي" حديثا ، خاصة فيما يعرف بحقبة البترودولار ، التي شكلت العنوان الأبرز لتبلور العلاقات  البرجوازية المشوهة ، وكل هذه العوامل هيأت الظروف الموضوعية لنشأة جناح مهم (وخطير) من أجنحة الرأسمالية العربية ، المعروف بجناح "البورجوازية الكومبرادورية"  التي بات التداخل بينها وبين أجهزة الدولة البيروقراطية –في كل بلدان النظام العربي- ، وثيقا وعضويا الى درجة أن بعض التحليلات تقول بظهور "الدولة الكومبرادورية" ، التي تحكمها "بورجوازية الصفقات" أو اقتصاد المحاسيب والأقارب أو ما أطلق عليه الاقتصادي الإنجليزي المعروف "جون ماينارد كينز" "اقتصاد الكازينو" في إشارته الى الفساد الذي ساهم في تفجير الأزمة الرأسمالية العالمية عام 1929 .

إن ظهور هيمنة البورجوازية الكومبرادورية والطفيلية وتحالفها مع البيروقراطية المدنية والعسكرية الحاكمة ، ورموز الأنماط القبلية وشبه الإقطاعية في بلادنا العربية ، في الظروف الراهنة ، يشير الى الدور الثانوي للاختلاف التاريخي في نشأة الشرائح الرأسمالية العربية العليا ، التي توحدت اليوم في شكلها ومضمونها العام وأهدافها المنسجمة مع مصالحها الأنانية الضارة ، عبر نظام استبدادي ، تابع ، ومتخلف ، يسود ويتحكم في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية ، كظاهرة عامة ، تتجلى فيها بوضوح ، الأزمة الاجتماعية العربية الراهنة ، بتأثير هذا التداخل العميق و المعقد لرموز الأنماط القديمة و الحديثة ، و مصالحهم المتشابكة في إطار من العلاقات الاجتماعية الفريدة التي تمتزج فيها أشكال الحداثة و أدواتها مع قيم التخلف و أدواته ، ساهمت في إضفاء شكل و مضمون خاص و متميز للواقع الاجتماعي العربي و تركيبته و خارطته الطبقية ، بحيث بات من المفيد مراجعة استخدامنا للمصطلحات الغربية ، مراجعة موضوعية ونقدية كي لا نعيد تطبيقها على واقعنا بصورة ميكانيكية ، كما فعلنا في المرحلة السابقة ، خاصة مصطلح "البورجوازية" ، عند تناول الشرائح و الفئات الرأسمالية العربية التي تشكلت تاريخياً –و إلى الآن- من هذا المزيج أو التنوع الاجتماعي غير المتجانس أو الموحد سواء في جذوره و منابعه القديمة ، أو في حاضره و مستقبله ، فمصطلح "البورجوازية" و غيره من المصطلحات التي تحدثت عن تطور التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وتسلسلها من المشاعية الى العبودية الى الإقطاع الى الرأسمالية ، والتي تطابقت مع مضمون التطور الرأسمالي في البلدان الصناعية الغربية ، تكاد تكون مصطلحات غريبة في واقعنا و شكل تطوره المشوه ، خاصة و أنها لم تتغلغل في الوعي العفوي أو الاعتيادي للجماهير ، و كذلك في صفوف القواعد الحزبية العربية كمفاهيم تحفيزية أو رافعة للوعي السياسي والطبقي ، لكون هذا المصطلح أو المفهوم مصطلحاً يكاد يكون وافداً ، غريباً ، نظراً لعدم تبلور الإطار أو الطبقة في بلادنا بصورة محددة ، التي يمكن أن يجسدها أو يعبر عنها أو يشير إليها ذلك المصطلح من جهة ، و نظراً لما ينطوي عليه أو يتضمنه هذا المفهوم من إعلان ولادة وتشكل طبقة جديدة هي "البورجوازية" كطبقة قائدة لمرحلة جديدة ، حملت معها مشروعا نهضويا حضاريا عقلانيا تطوريا ماديا هائلا ، عجّل في توليد التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية و مفاهيمها المتطابقة معها من جهة أخرى ، وفي هذا السياق نؤكد أن المطالبة بمراجعة المصطلحات ذات الطابع التطبيقي لا يعني مطلقا التطرق الى النظرية الماركسية ومنهجها ، والتي نشعر بالحاجة الماسة الى إعادة دراستها وتعميق الالتزام بها في هذه المرحلة وفي المستقبل . إن تناولنا لهذه الرؤية التحليلية ، لا يعني أنها دعوة إلى وقف التعامل مع هذه المصطلحات ، بقدر ما هي دعوة للبحث عن مصطلحات و مفاهيم معرفية أخرى إضافية تعكس طبيعة و مكونات التركيب الاجتماعي /الطبقي في بلادنا العربية ، بما يلغي كل أشكال الغربة أو الاغتراب في المفاهيم التي سبق استخدامها بصورة ميكانيكية أو مجردة ، بحيث نجعل من التحليل النظري و الاجتماعي لواقعنا ، في سياق العملية السياسية ، أمراً واضحاً و متطابقاً في كل مفاهيمه و مصطلحاته مع هذا الواقع الشديد التعقيد ، الذي يشير إلى ان التطور في بلادنا –كما يقول د. برهان غليون- "ليس بنياناً عصرياً بالرغم من قشرة الحداثة فيه ، و هو أيضاً ليس بنياناً قديماً بالرغم من مظاهر القديم ، و لكنه نمط هجين من التطور قائم بذاته ، فقد عنصر التوازن و أصبحت حركته مرهونة بحركة غيره" ، لذلك لا بد من إزالة اللبس و الخلط في المفاهيم ، الذي ساد طويلاً في الكتابات العربية ، و ساهم –إلى حد ما- في تكريس حالة الإرباك الفكري في أوساط القوى اليسارية العربية و عزلتها عن الجماهير ، و ليس معنى ذلك ، أننا ندعو إلى تكيف الوعي الطليعي العربي المنظم ، لمتطلبات الوعي العفوي الجماهيري ، بالعكس ، إنها دعوة –أو وجهة نظر- تستهدف التعامل مع الوعي العفوي بمنهجية و مفاهيم تعكس تفاصيل الواقع المعاش و تعبِّر عنه بصورة جدلية تدفع به الى التطور و النهوض ، انطلاقاً من قناعتنا بمقولة ماركس -في مقدمته لرأس المال- "قل كلمتك و امشي و دع الناس يقولوا ما يقولون". و في سياق الحديث عن طبيعة و مكونات التركيب و المتغيرات الطبقية في بلدان وطننا العربي ، و ضرورات إزالة الخلط أو اللبس في مصطلحاتها أو مفاهيمها ، نتوقف أمام طروحات اثنان من المفكرين العرب هما د.حليم بركات ، و الراحل د.رمزي زكي ، فالأول يطرح في كتابه "المجتمع العربي في القرن العشرين" المشار إليه في هذه الدراسة ، مسألة التكون الطبقي في المجتمع العربي و يعيدها إلى "الأصول الرئيسية المتشابكة التالية : ملكية الأراضي و العقارات ، و التجارة و ملكية رأس المال ، النسب العائلي المتوارث ، المنصب أو الموقع في السلطة ، مع الإشارة الى عدم تساوي هذه العوامل في الأهمية" ،و مع تقديرنا لصحة هذا التحليل و انسجامه مع الواقع ، إلا أن د. بركات في تصنيفه للطبقات الاجتماعية العربية المعاصرة ، يقر بوجود ثلاث طبقات رئيسية : "الطبقة البورجوازية ، الطبقة الوسطى ، الطبقة الكادحة" ، وهي قضية بحاجة الى النقاش ، نظرا لشدة التنوع في البنية والانتماءات الاجتماعية العربية التي أشار إليها في مقدمة كتابه . أما المسألة الثانية فهي ترتبط بتعريف "الطبقة البورجوازية" التي تتضمن كما يشرح د.بركات "شرائح اجتماعية قديمة من الأرستقراطية وكبار الملاك وشيوخ القبائل وكبار علماء الدين ، الى جانب كبار الرأسماليين التجاريين والصناعيين والأثرياء الجدد" ، وهو في تقديرنا ، تعريف ملتبس يتناقض مع مصطلح "البورجوازية" المتعارف عليه ، كمصطلح حديث ، عبّر عن طبقة جديدة تكونت في التاريخ الحديث في سياق صراعها مع الطبقات والشرائح القديمة الأرستقراطية وكبار الملاك ورجال الدين ، وبالتالي ، لا يجوز القفز عن كيفية تكون الطبقة البرجوازية ، وسياقها التاريخي في مرحلة محددة ، وكذلك في إطارها العام كطبقة لا مكان فيه للرموز والشرائح القديمة . المسألة الثالثة ، التي ندعو الى تأملها والتفكر فيها ومناقشتها بصورة موضوعية ، فهي مسألة "الطبقة الوسطى" ، و الالتباس حول مفهوم هذه الطبقة و شكل تطورها ووجودها و دورها ، و ذلك على ضوء كتاب المفكر الراحل د.رمزي زكي "وداعاً للطبقة الوسطى" ، و نتناول هنا هذه المسألة عبر الملاحظتين التاليتين : الملاحظة الأولى : لا بد من تحديد المقصود بالطبقة الوسطى و ماهيتها منعاً للالتباس و الإرباك ، تحديداً و إيضاحا للمفهوم و مغزاه أو دلالاته الاجتماعية و السياسية ، حيث أننا نعتقد في ضوء قراءتنا لكتاب "وداعاً للطبقة الوسطى" ان موضوع الكتاب يتناول الطبقة البورجوازية الصغيرة بصورة مباشرة ، التي تختلف بكل مكوناتها عن "الطبقة الوسطى" أو ما يعرف عندنا "بالرأسمالية الوطنية" التي لم يعد لها دوراً رئيسياً أو مركزياً في مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي في البلدان العربية أو في العالم الثالث ، ارتباطاً بطبيعة التطور الرأسمالي المعولم الراهن ، و شروطه و ضغوطاته على بلدان العالم الثالث و احتكاره لأسواقها المحلية المفتوحة بلا أية قيود أو ضوابط ، لذلك ، فإننا نرى أن استخدام مصطلح "البورجوازية الصغيرة" بشرائحها الثلاث : العليا ، و المتوسطة ، و الدنيا . هو الأكثر دقة و اقتراباً و تفسيراً للواقع الاجتماعي في بلادنا ، لا سيما و أنه يتفق مع التحليل الماركسي للمجتمع البورجوازي ، و هو تحليل يستند –كما هو معروف- إلى المقولة التالية : "في المجتمعات البورجوازية ثمة طبقتان رئيسيتان متناحرتان : البورجوازية ، و البروليتاريا ، و تشمل البورجوازية على ثلاثة أقسام هي :البورجوازية الكبيرة ، و البورجوازية المتوسطة و البورجوازية الصغيرة ، و هذه الأخيرة تتوزع على ثلاثة شرائح : العليا ، و المتوسطة ، و الدنيا ، و هي الطبقة الأقدم في التاريخ ، و الأكثر تعقيداً في أوضاعها الداخلية و تركيبتها ، و قد تناولها بالتعريف و التشخيص ماركس و انجلز و لينين و غيرهم من المفكرين الماركسيين ، نذكر منهم في بلادنا ، المفكر الماركسي الراحل د. فؤاد مرسي ، الذي أكد على أن "الحرفيين و صغار المنتجين و أصحاب الحوانيت و صغار الفلاحين و الموظفين ، يشكلون جميعاً ما يسمى بالبورجوازية الصغيرة ، أكثر الطبقات عدداً و أوسعها نفوذاً و أبعدها أثراً في مجتمعنا" . و المفارقة هنا ان هذا التعريف لا يختلف من حيث المضمون مع ما قدمه د. رمزي زكي الذي ينبهنا في كتابه إلى أنه "يستخدم مصطلح الطبقة الوسطى تجاوزاً ، لأنه مصطلح هلامي و فضفاض يفتقد للدقة العلمية ، و لأن هذا المصطلح يضم في الواقع كتلة واسعة من الفئات الاجتماعية التي تتباين في حجم دخلها ، و هي طبقة غير منسجمة ، يسودها مختلف ألوان الفكر الاجتماعي و السياسي ، حيث أنها تضم مختلف الشرائح الاجتماعية التي تعيش بشكل أساسي على المُرتَّبات المكتسبة في الحكومة و القطاع العام و الخدمات و المهن الحرة ، و يطلق على أصحابها : ذوي الياقات البيضاء يتوزعون على ثلاثة شرائح : عليا و متوسطة و دنيا" . إن تسجيلنا لهذه الملاحظة ، شكل من الاجتهاد يستهدف العودة بمفهوم كل من "الطبقة الوسطى" و "البورجوازية الصغيرة" ووضعه في إطاره الصحيح ، منعاً للإرباك في تحليلنا للأوضاع الاجتماعية و مكوناتها و أزمتها في بلادنا . الملاحظة الثانية : و تتناول الفرق الجوهري بين الطبقة البورجوازية المتوسطة ، و الطبقة البورجوازية الصغيرة ، حيث تتميز الأولى ، بضعف بنيتها و حجمها و دورها ، و بتماسك موقفها الأيديولوجي الأقرب إلى أيديولوجية البورجوازية الكبيرة ، بحكم توافق المصالح و تداخلها بينهما . أما البورجوازية الصغيرة فهي الطبقة الأكثر عدداً و اتساعاً و شمولاً في كل مجتمعاتنا العربية ، و البلدان النامية عموماً ، و قد لعبت هذه الطبقة دوراً مركزياً في الإطاحة بالبنية المجتمعية العربية التقليدية القديمة أو الأرستقراطية ، في العديد من الدول العربية ، و فرضت بديلها الوطني و القومي المعادي للاستعمار و الصهيونية من جهة ، إلى جانب بديلها الاجتماعي الداخلي ضد الإقطاع و الرأسمالية الكبيرة ، و أحدثت تحولاً نوعياً في حياة الفلاحين و العمال و الفئات الفقيرة ، لا يمكن تخطيه أو القفز عنه ، خاصة في المراحل الأولى من تولي الطبقة للحكم أو السلطة . المسألة الهامة الأخرى ، أن البورجوازية الصغيرة شكلت دوماً ، و ستظل إلى مدى بعيد قادم ، الوعاء أو المصدر الأول لتأسيس المؤسسات و الجمعيات و الأحزاب اليسارية و القومية و الدينية بمختلف أيديولوجياتها و أساليب عملها و أهدافها و حجم حركتها و اتساعها حسب هذا الظرف أو هذه المرحلة و طبيعة الطبقة السائدة فيها ، المهم أن هذه الطبقة ما زالت قادرة على التأثير الإيجابي في مجرى التطور الاجتماعي العربي ، إذا وجدت التنظيم أو الحزب القادر على إثبات وجوده و تأثيره ووضوح أهدافه ، إذ أنها طبقة ذات طبيعة مزدوجة نتيجة لوضعها المزدوج ، و تأرجحها بين الارتفاع و الهبوط ، و بالتالي فهي حين تشكل لنفسها تنظيماتها ، لا تنجح عادة في الاحتفاظ باستقلالها السياسي ، حيث تترعرع فيها المظاهر الضارة من الشللية و التكتلات و الانشقاقات و عدم التجانس أو التوحد الفكري و السياسي فهي "حين تحارب ضد البورجوازية الحاكمة ، فإنما تحارب بوسائل المجتمع البورجوازي نفسه" ، و لذلك يسهل قيادتها من خارجها –في ظروف محددة- عبر حركة منظمة ، أو حزب قوي بغض النظر عن أيديولوجيته و هويته السياسية و الفكرية ، و المثال الصارخ على ذلك ، ما يجري الآن من اتساع غير اعتيادي ، من حيث حجم و عدد عناصر البورجوازية الصغيرة الذين يشكلون الأغلبية الساحقة في الجسم التنظيمي للحركات الدينية السياسية و تنظيماتها في بلداننا العربية ، في المرحلة الحالية ، نظراً لتراجع قوة و حضور و تأثير الأحزاب القومية اليسارية الديمقراطية فيها . أمام كل ذلك ، ليس بإمكان القوى الديمقراطية اليسارية العربية تخطي واقع ووجود هذه الطبقة بالرغم من تقلبها و عدم ثباتها ، و ذلك لاعتبارين ، أولهما ، أن أوضاع هذه الطبقة عموماً ، و الشرائح المتوسطة و الدنيا فيها خصوصاً ، تواجه الآن في الدول العربية غير النفطية بالذات ، حالة من التدهور الكبير الذي أودى بأوضاعها الاجتماعية و الاقتصادية إلى الحضيض بسبب انخفاض مستويات دخولها و مستويات معيشتها انخفاضاً كبيراً ، و الانتشار الواسع للبطالة في صفوفها ، الذي أدى إلى هبوط أعداد كبيرة منها الى عداد الطبقة العاملة أو الشرائح الفقيرة عموماً ، و ذلك على أثر تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة و الخصخصة و بيع القطاع العام و إلغاء الدعم ، و ثانيهما ، يتمثل في الضرورة الموضوعية التي تفرض على كافة قوى اليسار الديمقراطي العربي ، أن يجدد قواه ، و يستعيد دوره الطليعي على الصعيد الاجتماعي و السياسي الداخلي ، في ظل هذه الظروف المتردية التي تعيشها جماهيرنا الشعبية اليوم ، و التي استطاعت الحركات الدينية السياسية ، عبرها ، أن تتفاعل معها بما أدى الى اتساع أطرها ، وضخامة تأثيرها السياسي ودورها رغم عدم وضوح برامجها الاقتصادية والاجتماعية من جهة ، وعدم تناقض هذه البرامج مع جوهر الليبرالية الرأسمالية وأنظمتها من جهة أخرى . إن وجوب تفاعل قوى اليسار الديمقراطي مع الشرائح المتنوعة للبورجوازية الصغيرة ، يفرضه حجمها ووجودها الكمي الذي تزيد نسبته عن 50% من مجموع السكان في بلداننا من ناحية ، كما يفرضه شكل وطبيعة الصراع الطبقي وضعف تبلور الوعي به من ناحية ثانية ، خاصة في أوساط العمال والكادحين الذين لم يتبلوروا بعد "كطبقة بذاتها" ، تعبر عن وجود متبلور ومحدد المعالم أو حالة موضوعية ، فعمالنا وكادحينا ما زالوا يشكلون "طبقة لذاتها" تمكنهم من التعبير عن وجودهم الذاتي ، وليس الطبقي العام ، إن الفرق هنا هو فرق بين الموضوعي والذاتي ، وبكلام آخر ، إنه الفرق بين الوعي الطبقي ، أي الإحساس بالظلم ومقاومته ، والوعي الزائف الذي لا يدل ويكشف عن حقائق الواقع ، ويلجأ الى الأسباب الشكلية أو التراثية أو القدرية أو الاقتصادية على أحسن تقدير ، وهنا تكمن الحاجة الماسة ، أو الحتمية في ضرورة إعادة تجديد واستنهاض دور القوى اليسارية الديمقراطية العربية ، التي تملك وضوحا في الرؤية الأيديولوجية ، ووضوحا في البرنامج الاجتماعي/الاقتصادي ، ووضوحا في الموقف القومي والسياسي العام ، بما يحول دون تأثير المظاهر والصفات الضارة ، من تذبذب وتردد ونزوع نحو التكتل والشللية من جهة ، ويضمن لهذه القوى وأطرها قيادة ملتزمة بقضايا الجماهير الشعبية الفقيرة وإخراجها من هذه الأزمة الاجتماعية التي تكاد تعصف بوجودها ومستقبلها . المسألة الأخيرة التي نتناولها في سياق الحديث عن الأزمة الاجتماعية في الأوضاع العربية الراهنة ، تتعلق بمفهوم "المجتمع المدني" -موضوع هذه الدراسة- الذي انتشر في بلادنا خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين . فبالرغم من تداول هذا المفهوم في الأوساط النخبوية الحكومية و غير الحكومية ، في بعض البلدان العربية ، إلا أن هذه الظاهرة -كما أشرنا من قبل- لا تعني وجود أو تبلور مجتمع مدني عربي كما يروج البعض ، إذ أننا ما زلنا في مرحلة ما قبل الحداثة أو ما قبل المجتمع المدني ، رغم كل ما يتبدى على السطح ، في الواقع المادي أو في المفاهيم ، من مظاهر حداثية لا تعدو أن تكون شكلاً فقط دون أي محتوى حقيقي يعبر عنها ، و الشاهد على ذلك بصورة حية ، مسار التطور الاجتماعي العربي في سياقه التاريخي العام ، القديم و الحديث ، هذا المسار لم يستطع حتى اللحظة ، بسبب عوامل خارجية و داخلية مهيمنة ، فرز أو بلورة طبقات بالمعنى الحقيقي ، و الواسع للكلمة ، أي "طبقات بذاتها" تستطيع التعبير عن مصالحها الاقتصادية و السياسية ، و تدافع عنها ككتلة طبقية موحدة مدركة لوجودها الموضوعي ، ففي غياب هذا التبلور الطبقي ، و استمرار سيطرة الأنماط القديمة ، تشكلت في بلادنا حالة طبقية مشوهة ، امتزجت فيها ، كل العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالأنماط القديمة و الحديثة معاً ، تبدو واضحة اليوم عبر ما نشاهده في كل مجتمعاتنا من استمرار وجود و تأثير العلاقات البدوية القبلية و الحمائلية و العائلية والطائفية ، و العلاقات شبه الإقطاعية التي اختلطت بالعلاقات الاجتماعية الرأسمالية الحديثة ، و كونت هذا المزيج أو التشكل الطبقي المشوه و السائد –حتى اليوم- في كل مكونات البنية المجتمعية ، الفوقية و التحتية بهذه الدرجة أو تلك ، و بالتالي فإن الحديث عن مجتمع مدني ، في إطار هذا المزيج أو الشكل المرقع من "الجماعات" ما قبل الحداثة أو المدنية ، مسألة تحتاج إلى المراجعة الهادئة التي تستهدف تشخيص الواقع الاجتماعي العربي ، و أزمته المستعصية الراهنة ، تشخيصاً يسعى إلى صياغة البديل الديمقراطي القومي وآلياته الديمقراطية وصولاً إلى تفعيل مفاهيم و أدوات ومؤسسات المجتمع المدني في إطار النضال الوطني و القومي ، التحرري و الديمقراطي المطلبي معاً ، ففي هذا السياق وحده ، نستطيع نفي الطابع الطارئ و المستحدث الوافد لمفهوم المجتمع المدني من جهة ، و نستطيع أيضاً نفي واقع الإبهام و الغموض الذي يشوب الحديث عنه في هذا المناخ المهزوم و المأزوم ، حيث ترعرع مفهوم "المجتمع المدني و الديمقراطية الليبرالية" و بات مألوفاً من كثرة تداوله في معظم "الحوارات و الندوات وورش العمل التي تعقدها بعض القوى السياسية و تروج لها المنظمات غير الحكومية ، و هي "حوارات و ورشات عمل" استطاعت الانتشار و التوسع في العديد من الدول العربية في أوساط نخبة يتكرر حضورها في هذه الندوة أو الورشة أو تلك بصورة شبه دائمة ، و هي ظاهرة تدعو إلى إثارة الانتباه و التأمل ، و ليس الاستغراب ، من حيث أن هذه "الورش و الندوات" التي "نجحت" في القفز بمفاهيم المجتمع المدني و الديمقراطية الليبرالية ، و الوصول بها إلى أعلى سلم الأولويات في الإطار الضيق "للنخبة السياسية" التي تخلى معظم رموزها عن مواقفهم اليسارية السابقة ، لم تنجح –بالمقابل- في الوصول أو التغلغل بأي شكل من الأشكال إلى الأوساط الجماهيرية الشعبية ، و إن دل ذلك على شيء ، فإنما يدل على غربة هذه المفاهيم بطابعها و جوهرها الليبرالي عن الواقع من جهة ، و غرابة صيغها و عناوينها الفرعية المتعددة ، و شكل عباراتها المركب بصورة لا يمكن للجماهير أن تستوعبها ، نورد بعضاً منها على سبيل المثال :"التمكين في المشاركة" "الشراكة الجديدة بين الدولة و الأسواق" ،"تنمية قدرات الإنسان" ،"تقدير الفقر بمشاركة الفقراء في وضع استراتيجيات تخفيف فقرهم!" "تنمية المبادرات المحلية" ،"المنظمات الأهلية و الديمقراطية و التنمية المستدامة" ،"دور المنظمات الأهلية مع القطاع الخاص" ،"التنمية البشرية من منطلق الأطفال" ،"الجندر" ،"عمليات التشبيك" ،"الليبرالية و الخصخصة و اقتصاد السوق" …. الخ . و هي عبارات غريبة في معظمها عن واقعنا ، مما جعل منها عبارات عامة و مبهمة و "جديدة" حلت محل المفاهيم المعادية للإمبريالية و الصهيونية و مفاهيم التحرر القومي و الوحدة و العدالة الاجتماعية و الاشتراكية، و أضيفت إلى مفردات اللغة و الخطاب السياسي الهابط ، الذي حدد النظام الرأسمالي المعولم الجديد ، أسسه و منطلقاته الليبرالية ، الفكرية و السياسية العامة ، و ترك هامشاً للمنظمات غير الحكومية في العالم العربي ، و العالم الثالث لتمارس دورها أو قناعاتها الجديدة ، أو مشاريعها ومخططاتها المرسومة التي قد تحمل في طياتها -في اللحظة الراهنة من الهبوط السياسي المريع- توجه بعض هذه المنظمات (عبر تأثير ودور شخوصها السياسية الكاريزمية) لتأسيس أحزاب سياسية ليبرالية اجتماعية جديدة في بلدان الوطن العربي عموما ، وفي فلسطين بشكل خاص ، تبتعد بصورة أساسية عن جوهر المشروع الوطني المقاوم للاحتلال الصهيوني تحت غطاء البرنامج الاجتماعي الديمقراطي الداخلي ، وحقوق الإنسان والتنمية ، وبدعم تمويلي كبير لمساعدة هذه "الأحزاب الوليدة" وضمان فوزها في أية انتخابات قادمة ، بعد إسدال الستار على المشهد الوطني في المرحلة الماضية لكي تكون هذه الأحزاب عنوانا للمشهد القادم . وفي هذا السياق لا بد من الإشارة الى تلك الازدواجية أو المفارقة الغريبة ، التي تمارسها دول النظام الرأسمالي الغربي ، فهي من جهة تساند و تدعم كافة الأنظمة و المؤسسات الاستبدادية المتخلفة في بلادنا بصورة منهجية واضحة ، و تقوم عبر هذا الزيف الليبرالي بدعم المنظمات غير الحكومية دفاعاً عن الديمقراطية و حقوق الإنسان من جهة أخرى !؟ أية ديمقراطية هذه ؟ وما هي طبيعة وأهداف المجتمع المدني الذين يروجون له ؟ إنها الديمقراطية المغربة ، النخبوية ، الفوقية ، والمعزولة عن الجماهير ، ما يؤكد على ذلك أن جميع المنظمات الغير حكومية –في البلدان العربية- لم يستطع أي منها الاعتماد في تمويل مشاريعه على المجتمع المحلي و لو بنسبة 20% فقط ؟! بسبب اعتماد هذه المنظمات على الآخر الأجنبي من جهة ، و فشلها في إقامة أي شكل من أشكال العلاقة الواسعة و الثابتة مع الجماهير أو المجتمع المحلي من جهة ثانية ، رغم أن عدد هذه المنظمات يزيد -كما أشرنا من قبل عن- (75) ألف منظمة تنتشر في بلدان الوطن العربي على السطح بلا أي جذور أو تمدد ، بما يؤكد تقييم المفكر العربي سمير أمين لهذه المنظمات بقوله "إن الطفرة في المنظمات غير الحكومية ، تتجاوب الى حد كبير مع استراتيجية العولمة ، الهادفة الى عدم تسييس شعوب العالم ، وهي انسجام أو إعادة تنظيم لإدارة المجتمع من قبل القوى المسيطرة" . و في هذا المشهد الملتبس داخلياً ، في إطار النظام العربي المأزوم و المهزوم ، و خارجياً على الصعيد العالمي ، خاصة بعد انهيار الثنائية القطبية و معادلاتها و ضوابطها السابقة ، يصبح الحديث عن مفاهيم المجتمع المدني ، نتاجاً مباشراً لهذا المشهد الجديد ، و عوامله و محدداته الخارجية ، و ليس نتاجاً لمعطيات و ضرورات التطور الاجتماعي –الاقتصادي-السياسي في بلادنا ، إذ أن الحديث عن المجتمع المدني العربي ، هو حديث عن مرحلة تطورية لم ندخل أعماقها بعد ، و لم نتعاطى مع أدواتها و معطياتها المعرفية العقلانية التي تحل محل الأدوات و المعطيات المتخلفة الموروثة ، مثالنا على ذلك صارخاً في وضوحه لمن يريد أن يستدل عليه ، فالبورجوازية الأوروبية –التي كانت ثورية في مراحلها الأولى- في عصر النهضة أو الحداثة ، جابهت الموروث السلفي اللاهوتي الجامد ، بالعقل و العقد الاجتماعي ، و جابهت الحكم الثيوقراطي و الأوتوقراطي الفردي بالعلمانية و الديمقراطية ، و جابهت الامتيازات الأرستقراطية و الطبقية بالحقوق الطبيعية ، كما جابهت تراتبية الحسب و النسب و اللقب بالمساواة الحقوقية و المدنية ، بين جميع المواطنين ، فأين نحن العرب من كل ذلك ؟ و نجيب بوضوح ، ان مجتمعنا العربي اليوم ، هو "مجتمع بلا مجتمع مدني" ، فطالما أن بلادنا ليست في زمن حداثي/حضاري و لا تنتسب له ، بالمعنى الجوهري ، فإن العودة إلى القديم أو ما يسمى بإعادة إنتاج التخلف سيظل أمراً طبيعياً فيها ، يعزز استمرار هيمنة المشروع الاستعماري المعولم على مقدراتنا و استمرار قيامه فقط بإدارة الأزمة في بلادنا دون أي محاولة لحلها سوى بالمزيد من الأزمات . أمام هذا الواقع المعقد والمشوه ، و في مجابهته ، ندرك أهمية الحديث عن المجتمع المدني و ضروراته ، و لكن بعيداً عن المحددات و العوامل الخارجية و الداخلية ، المستندة إلى حرية السوق و الليبرالية ، لأننا نرى أن صيغة مفهوم المجتمع المدني وفق النمط الليبرالي ، فرضية لا يمكن أن تحقق مصالح جماهيرنا الشعبية ، لأنها تتعاطى وتنسجم مع التركيبة الاجتماعية-الاقتصادية التابعة و المشوهة من جهة ، و تتعاطى مع المفهوم المجرد للمجتمع المدني في الإطار السياسي الاجتماعي الضيق للنخبة و مصالحها المشتركة في إطار الحكم أو خارجه . المسألة الأخرى التي ندعو الى إعمال الفكر فيها ، تتمثل في تلك الفجوة بين الإطار الضيق لأصحاب السلطة و الملتفين حولها من جهة ، و الإطار الواسع للجماهير الشعبية الفقيرة من جهة أخرى ، وهي ظاهرة قابلة للتزايد و الاتساع و التفاقم ، عبر التراكم المتصاعد للثروة ، الذي يؤدي –كنتيجة منطقية أو حتمية- إلى تزايد أعداد الجماهير الفقيرة المقموعة و المضطهدة تاريخياً ، و تعرضها إلى أوضاع غير قابلة للاحتمال أو الصمت ، مما يضعها أمام خيارين : إما الميل نحو الإحباط أو الاستسلام و اليأس ، أو الميل نحو المقاومة و المجابهة السياسية الديمقراطية ، أو العنيفة ، تحت غطاء اجتماعي أو ديني ، أكثر بما لا يقاس -كما أشرنا من قبل- من ميلها نحو الاقتناع بالهامش الليبرالي و شكله المحدود ، للخلاص من وضعها و أزماتها المستعصية ، إن إدراكنا لهذه الفروق الجوهرية ، يدلنا على كيفية التعامل مع مفهوم المجتمع المدني ، و أية مفاهيم أخرى ، وفق خصوصية تطورنا الاجتماعي التاريخي و المعاصر ، المختلفة نوعياً عن مجرى و طبيعة التطور في البلدان الغربية ، و ما يتطلبه ذلك الإدراك من تحويل في المفاهيم بحيث تصبح مقطوعة الصلة مع دلالاتها السابقة ، التي تمحورت فقط عند الإشارة إلى المجتمع المدني كضرورة في خدمة عمليات التنافس الاقتصادي بين الأفراد على قاعدة حرية السوق في إطار الليبرالية الجديدة وآلياتها المتوحشة في نظام العولمة الراهن . وفي هذا السياق ، فإن رؤيتنا لمفهوم وتطبيقات المجتمع المدني في بلادنا ، تتجاوز التجزئة القطرية لأي بلد عربي ، تتجاوزها كوحدة تحليلية قائمة بذاتها (رغم إدراكنا لتجذر هذه الحالة القطرية ورسوخها) ، نحو رؤية اشتراكية ديمقراطية قومية -تدرجية- تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة -المجتمع العربي ، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة ، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا ، في بنيتها التحتية ومستوياتها الجماهيرية الشعبية على وجه الخصوص . على أن الشرط الأول للوصول الى هذه الرؤية -الهدف ، يكمن في توحد المفاهيم والأسس العامة ، الأيديولوجية ، والسياسية ، والاقتصادية-الاجتماعية ، للأحزاب والقوى والفصائل اليسارية الديمقراطية العربية داخل الإطار الخاص في كل دولة قطرية عربية على حدة كخطوة أولية ، تمهد للتوحد المعرفي والسياسي العام الذي يسبق التوحد التنظيمي المطلوب تحققه كضرورة تاريخية ، في مرحلة لاحقة ، بعد توفر وإنضاج عوامله الموضوعية والذاتية ، وذلك "بإيلاء الأيديولوجيا أهمية وصلاحية غير عاديتين في المقاربة الماركسية العربية للتجريبي والممكن ، فالماركسية العربية -كما يقول مهدي عامل- لم تكن في جملتها سوى فلسفة أخلاقية للتعبئة ، وأنها كانت تبعا لذلك قاصرة عن ان تبدع برنامجها النظري السياسي ، من هنا أهمية التركيز على حقل المعرفة كحقل مميز من حقول الصراع الطبقي" ذلك إن وحدة المفاهيم أو الإطار المعرفي السياسي ، ووضوحها لدى هذه الأحزاب والقوى ، ارتباطاً بوضوح تفاصيل مكونات الواقع الاجتماعي -الاقتصادي-الثقافي العربي ، ستدفع نحو توليد الوعي بضرورة وحدة العمل المنظم المشترك ، وخلق "المثقف الجمعي العربي" عبر الإطار التنظيمي الديمقراطي الاشتراكي الموحد من ناحية وبما يعزز ويوسع إمكانيات الفعل الموجه نحو تحقيق شروط "الهيمنة الثقافية" في أوساط الجماهير الشعبية من ناحية ثانية ، وذلك إدراكا منا لهدف جرامشي الحقيقي ، أو البعيد ، من استخدامه لمقولة "الهيمنة الثقافية" ، فهو -كما يقول عزمي بشارة- "رغم إضافته الهيمنة الثقافية وجعلها ساحة الصراع الأساسية في المرحلة ما قبل الثورية ، إلا أنه بعيد كل البعد عن إحالة مهمات التغيير على عاتق المجتمع المدني القائمة ، فالأدوات الأساسية للتغيير التي يجب أن يعمل من خلالها ، المثقفون العضويون الذين يحملون فكر التغيير ، هي الحزب الاشتراكي من أجل تحقيق الهيمنة الأيديولوجية الكفيلة بإزالة الفرق بين الدولة والمجتمع ، ذلك إن مفهوم المجتمع المدني عنده ، ليس هو مفهوم الاتحادات والجمعيات الطوعية والمؤسسات المدنية القائمة على التواصل العقلاني ، على العكس من ذلك ، يعتقد جرامشي أن مسألة الهيمنة الثقافية لا يمكن حسمها عقلانيا ، وإن الحزب القادر على الهيمنة الثقافية هو "الحزب الاشتراكي" ، القادر بمثقفيه العضويين ، أي الذين يتحزبون بوضوح لفئة اجتماعية بعينها ، على التحول من ثقافة النخبة الى ثقافة الجماهير ، وعلى تملك مشاعر وأحلام الجماهير ، والتحول الى مُركّب من مركبات هويتها الثقافية ، والتحول الى "دين جديد" (أو فكرة مركزية توحيدية) يزود الناس بمعنى لحياتهم ، ويجندهم باتجاه التغيير نحو مجتمع أفضل" ، يكون هدف النضال السياسي فيه كسر استبداد الأنظمة وتجاوزها ، وإخراج الجماهير الشعبية من حالة الإحباط والركود ، وتفعيل دورها الذاتي المدرك لوجوده ، كميدان رئيسي للفعل الجماعي والارادة الشعبية الخلاقة لتحقيق أهدافها في التحرر القومي والديمقراطي ، عبر التصدي ومقاومة العدوانية الصهيونية الإمبريالية على بلادنا ، وإزاحتها من جهة ، في موازاة النضال من اجل التحرر الديمقراطي الاجتماعي الداخلي وفق قواعد الاعتماد العربي على الذات للخلاص من التبعية والتخلف وتحقيق الديمقراطية وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية من جهة ثانية . بهذا التصور ، يصبح تعاملنا مع مفهوم المجتمع المدني ، مرحليا ، وبعيدا عن المشروع الرأسمالي وحرية السوق والليبرالية الجديدة ، وبالقطيعة معها ، دون أن نتخطى أو نقطع مع دلالات النهضة والحداثة في الحضارة الغربية من الناحية المعرفية والعقلانية والعلمية والديمقراطية وكافة المفاهيم الحداثية الأخرى ، وتسخيرها في خدمة أهدافنا في التحرر القومي والبناء الاجتماعي التقدمي بآفاقه الاشتراكية كمخرج وحيد لتجاوز أزمة مجتمعنا العربي المستعصية ، مدركين أن هذه الأهداف تتشابك وتترابط بشكل وثيق مع الأهداف الإنسانية بصورة عامة ، ومع أهداف الشعوب الفقيرة في العالم الثالث خصوصا من اجل إخضاع مقتضيات العولمة لاحتياجات شعوب هذه البلدان وتقدمها الاجتماعي ، ومن أجل المساهمة في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري . لقد حانت اللحظة للعمل الجاد المنظم في سبيل تأسيس عولمة نقيضة من نوع آخر عبر أممية جديدة ، ثورية وعصرية وإنسانية . اغسطس 2006