نقاش المستخدم:Radwanrn
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
لغة طارئة رواية
رضوان نعنوع
radwanrn@maktoob.com ص ب: 3322 – حلب - سورية
هذه المقدمة هي بداية التدوين، والبداية إعلان أولي بنهايته.. في ذهني بعض المفردات، تركتها لأنني أختنق من تعلمي، وأنتظر أواخر الحكايات المملة في حياتي. ثمة أحاديث، مازلت أذكرها لأنني أملك القدرة على التذكر، وثمة أحاديث لم تكن إلا لغة مجردة تحمل حالات خرجت من أفعال وتصعدت إلى عرض للذات لا نقص فيه. و "الكلام" يضعني دائماً أمام الأفكار من أولها. إلى أقصاها لأستفيد من تشخيص تأملات قد تكـون مرشحة لحلول تخص فضائي الذهني والوجداني معاً.
حاولت عدم التحدث عن الوجداني فيما كتبته، وكانت لدي الرغبة في أن أتجاوز ذلك لأنني لم أعد أطيق التكرار على الرغم من استفادتي منه لإنتاج حقائق مما تعلمته في حياتي، فأكون بذلك قد مارست التكرار فيما مضى للارتواء فقط.
يبقى لي أن أستوطن بجانبي بعيداً عن التوتر، بإلغاء الخرافية من الرغبات، و إقامة تعريف كامل لرؤية الأشياء من حولي، دون أن يتم ذلك من ارتباط و حسب، بل بقيام مملكة حميمة مع من أحب.
لم أكن أرغب في عقد اتفاقٍ مع الآخر، لأنني أدرك أن له أبعاداً جسدية، ومفارقات نفسية، ربما تكون مضايقة لي وهذا لا يعني أنني أرغب في هندسة إدراكي لتوصيل حقيقة ما عن واقع المرأة/الرجل، بل أرغب في ملامسة تلك الحميمية والمؤانسة واختزالها، وصولاً إلى الحب.. لأتصافح معه.
هـي المصافحة التي لا تقبل عنـدي أية مرجعية دون المرور بالتعرف على الذات واستقطابها، لأن أية علاقة بين امرأة ورجل تقع دائماً بجانب التغيُّرات الغائبة التي يمكنها أن تجلب هزة ما.
لم أكن أريد أن أستعرض الكلام استعراضاً، إنما رغبتُ في المحاورة والتي هي أقصر الطرق لإيصال إحساسي تجاه الآخرين، لأنني أحمل تسلسلاً ذهنياً لما دار في هذه الوريقات...
لقد أحببت الياسمين الأصفر (الـ)بلا رائحة.. ضمن رغبة رُحِّلَتْ عنَّي فجأة.. فكانت هذه اللغة.. طارئة.
القسم الأول
"إيحاء ممكن"
تم الاغتصاب الأول ظهراً، كما تم الاغتصاب الثاني في ظهرٍ آخر، كذلك الاغتصاب.. الرابع. لم يمتني أي من تلك الاغتصابات، بل مما نتج عنها من قيظ شديد: تبخّر ماء عقلي.. لقد قلت لك إنني أزاوج كالعادة بين التجريد الذهني، و وقائع تمت بلغة قد تفسر بالمقلوب و في أفضل الحالات بسوء نية. يعني إسقاط ما هو تصريح ذهني وإعلاء ما هو واقعي، كفصل سيئ بين توأم أنجب بحجة تخفيف حدة التأثيرات الغابرة.
كنت أفكر اليوم بعقلي الصلد و بقلبي العطب، حين ابتعدتُ عن التفكير بروحي فهالني السؤال: أ تكمن الراحة التامة في البوح أم في النسيان؟.. طريق البوح ملغومة و النسيان يشبه نقل آنية من الطاولة إلى رفّ غير مرئي، كالسقيفة مثلاً.
بات من المحرج الإجابة عن سؤالي: لأي منهج أخضع؟
وددت أن أقول لك: تعالَ ننهِ ما كان، لأنني غير قادرة على البوح تحت الطلب، ولا يسعني النسيان. أنت تطالب بشرفية لا أثق بجدواها، طالما أنني أنزاح أصلاً للتمويه- تمويه الماضي حصراً - وليس حاضري معك، إذ أنك أدركتَ و وعيتَ كم أنا طبيعية معك، لكنك تطالبني بصراحة آنيّة إزاء جفافي. لقد وعيت في الفترات المتأخرة أن مجرد التفكير بالماء يتعبني، فإذا كنت مُصراً على تغيير تمديداتي التي باتت غير صحية، فإنني أجيبك: لا أستطيع ذلك.. على الأقل ليس قبل وقت مديد وإحساسي الشخصي غير المدفوع بإلحاحك بضرورة ذلك. يعني إذا أردت أن أُشلَّ بالسفر فلا تساعدني على ذلك، عندها سأبقى هنا بحجة إجراء تصحيح علي.. تصحيح لا يجيء من خاطري إنما يعود لرغبتك في ذلك.
في حلمي الأخير - قيلولة طبعاً - رأيتك تدخل غرفتي تلمس نومي فلا تلومني. أما وقد استيقظت فإنني أراك تلوم جفافي بالتحديد.. لماذا؟ هذه أنا حالياً، فإذا كنـت ترى أنه من الأفضل، ضمن يقظـة لا نهائيـة، الغـوص سريعاً في ماء .. - تودُّه ماءك - فاتركني أهيئ مَلَكَاتِي لذلك، طالما أنك تعرف كم يلبي التأني سراً اعتيادياً وتوازناً لا يخيب.
ربما تتشاءم من بعض الذين يعبثون إزاء حوض السباحة، يبللون أجسامهم بالماء حتى يعتادوا برودته، كما يحدث لي الآن معك، لكنني بعد زمن من المخيبات أقول لك: لم أستفد من غطساتي السريعة في الماء، فقد تمت دون تمهيد مسبق، فأتت مباغتة لي وللماء وللرائي، بل إنها لم تقوِّ حتى بنية بدني كما تصورتُ أن يحدث، ما أدركته للتو هو أنني فقدت الكثير من سماتي بالارتطام بسطح الماء و الانسحاب السريع واللاهب في عمقه وعند الخروج السهل على السلم الكامن بين الماء و الهواء أو بتسلقي الوئيد لحافة الحوض حيث كان ينتظرني التأثير الأشد فتكاً: شمس الثانية ظهراً بعين مفتوحة على جلدي الذي يفقد دائماً بياضه لينتج شامات جديدة وجلداً أحمر لا يمكن مسه حتى بغطاءٍ خفيف.
لِمَ التسرع في غير محله؟ دعنا نتمهل! دعني! ربما كنت أود أن أطعم كبريائي الجائعة، لربما أود أن أربيها قليلاً.. قليلاً لتكتسب.. كما القطط المنـزلية، بعض صفات البشر فأصير أكثر جدارة بك.
قد يكون كلامي صبيانياً كما كان في اللقاءات الأولى وتواتيك رغبة في توبيخي عساي أنضج ولو مرة واحدة، هذا عن طريق تمزيق رسائلي التي عندك أو مطالبتي بلقاء فوري، لأنك بحاجة أن تنتشلني من بئر تتسلى بمكوثي في دلوها، وشد الحبل الحُرّ / المربوط، أطلع وأنزل كما تشاء. أنا أخاف أن ينقطع الحبل بي فجأة وأنت تريد أن تبقيني عن لعبتكَ المشينة. أنت تخاف علي أكثر مني، هذا ما تبينتـه وبكيت.. لأنه يوجد من أجلي شخص واحد فقط على هذه الكرة الأرضية يخاف عليَّ كما يجدر بشغف أن يكون..
أحياناً تعاجلني رغبة الإمساك بروحك و وضعها لقمة تذوب سريعاً في فمي إذ أعجز عن تثبيت يديك طويلاً حول عنقي.. إذ أعجز عن اقتناه ذاك الألق الذي حدثتك عنه مرة..
إن السفر إلى أمريكـا يغرينـي..
ربما كنت أو مازلت ملهوجة وأبحث كما الذكور عن حائط فوري.. أعذرني للتعبير.
لا.. لا تعذرني فأنت معتاد على أن تُمسّ وأن تلغي تألّبك دون مفاوضات عقيمة، كنتَ تعرف ماذا تريد من الآخر وتمنحه القليل، إلى أن قابلتني.
هاأنت تمنحني الكثير وتجدني أحياناً بلهاء إزاء هباتك، هذا لأنني لم أتعلم ولم أكن أمنحك لا القليل ولا الأقل ولاشيء.. و الأهم من ذلك هو أنني.. لم أتعود الاستقبال وغسل الكؤوس جيداً حتى لا يشوبها (زنخ). على الرغم من محاولتي.. إلى أن قابلتك.. بدأت أستعمل أزرار التشغيل بتوجه تجريبـي فما كان إلا أن اكتشفت أن باستطاعتي تقديم طبع كلمة:
" لك " ..أتراجع عن نسخها، فأستعمل زر التنسيق لأجاري كسلي.. وفي لحظة المواجهة مع شاشة لاتعي ما تعرض، أضغط زر الهروب، ثم أتابع تجديفي المرير حتى يدخل نصف
سنتيمتر من رأس سبابتي في تجويف زر الإنهـاء وينقطــع على الفور تمديد الطاقة.. إنني أهرب منك ومن شرودك المتلبس بالانشغال أمام هروبي.. وهو وحده ما يعيدني إلى محاولاتي لتعلم أصول الاستقبال.. إنني أفشل وهذا ما اتضح لي.. فهل لك أن تقيم ما يبدد هذا الغموض في هذه الفترة.. عليِّ أن ألاقيك بعيداً عن البشر.. هل نلتقي؟
أتساءل، لماذا لم آخذ فنجان قهوتي وحيدة من دونك؟ لماذا حرَّفتُ قدر اليوم كي نلتقي؟ فلم نلتق.
سمَّمني فصل الصيف بفعل حرارته، هذا ما كنت أقوله في لحظة لأعيه في التالية.
ستقول: إنني محض خواء، ثم تقطع عليَّ حديثي. سأقول لك إنني أحاول جهدي، لم أعدك بذلك لكنني أفعل، لأنني أعرف أنك فرصتي الأخيرة، بعدها سيصاب قلبي باليباس.
قال صديقك: إنني سأعذبك.. لم يكن عرافاً، إنما كنت أرقع مزقي كي أبدو أكثر انسيابية أمامه، لأنني اكتشفت أنني بدأت أصعد نزولاً. ماذا حل بنـزقك عندما لم نلتق بعد اتصالنا الهاتفي بقليل؟ لقد مادت بي الأرض لأننا لم نلتقِ.. فتشبثت بدموعي و ركنت إلى ما سيشفُّ عنه انزلاق الملح على ماء خدي.. و فكرت: إنني مهاجرة نحو حتفي.. ربما.. أثقل عليك.. إنما ليس لديك سوى أن تنتظر قدرةً - ربما سيطول نومها فيَّ - على تحديد محيطي أكثر و الخروج منه إليك.
ذات يوم.. خرجت من بيتي وأنا أسبح إليك. ما قطعتُ الشوارع و لا شممت رائحة الناس، لم يصادفني شجراً و يستوقفني طارئ.. فجأة صرت قرب بيتك.. و عندما لم أرن الجرس فتحت لي الباب.. و بيد غائبة عن الوعي أغلقتَه ورائي و بشفاه مركزة نزلت على شرودي بك.. أما الآن فأشعر أن هزة أرضية عليها أن تأخذني أنا وحدي فقط، أتمناها أن تحدث في غرفتي، تماماً تحت سريري، لأنه عليّ أن أكون مهملة، أرجو أن لا تسعفني، ربما في الغياب تراني أكثر، تعرفني أكثر، تنساني أكثر فأكثر.
كم يفهم بعضنا الآخر بسرعة.. أما قرأت لي:
" وددت أن أكرهك قليلاً كي لا أشعر بأصابعي لاهبة نحوكِ "
هذا ما جعلني على وشك البكاء.. أن أضرب رأسي بالحائط ، مع " ضحكة فاقعة" حسب تعبيرك الشائق.
إنني أتحدث معك بكلام مضطرب، مضطرب فعلاً.. و أود أن أستجمع كل حياتي لكي أضعها في نصف ساعة بين يديك.
أنظر مثلاً:
في كل صباح و بعد مماطلات عديدة مع الساعة طمعاً ولو لخمس دقائق نوم زيادة، أستيقظ وفكي يؤلمني إثر اصطكاك أسناني ببعضها البعض طوال نومي المتصلِّب.
كنتُ في كل مساء أتمنى حدثاً خارجاً عن المألوف، كأن أحضر معك مباراة واحدة إما للبرازيل أو لرومانيا، التي تحب فريقها. يومها حزنتُ حقاً لأن (روماريو) لن يلعب، لكني لن أبتئس فأنا معكَ لأفرغ رغبتي في التشجيع بتنافس درامي ما، أكان لعبك أم لعبي، ربما أنت لا تحب هذه الكلمة لكنك حقاً تقدرها، وتفهم أنني عندما أقول" لعب " فأنا أقصد اللعب النظيف.
من أجل ألاّ يبعد النوم كلماتي إليك، كان يجدر بي ألاّ أفكر بك كل ليلة..
إنني أتواطأ معك، لكنني وكما نبهتك: لا أحفل برغبتك في نزعي من جلدتي. يكفيني أنك تمنحني الراحة.
تذكرت إحدى الليالي وأنا آكل تفاحة خضراء كنت قد خبأتها لكِ قبل يومين لأعطيك نصفها.. " لقطة رومانسية على خلفية كتاب عاطفي" هكذا ستعلّق على كلامي.. فلقد سئمت من أكل البراد والطبخ والغداء بطعم العفن في منـزلي فمددت يدي قصداً ونسلت الخيط الأخير لرغبتي في مشاركتك معي.
نعم، لقد أكلت التفاحة كلها دونك.
أحياناً أحب وأنت تحلل شخصيتي، أن أمكث عندك حتى الصباح، ربما سأعود إليك عندما أنهي عملي بعد الظهر.
أنت لطيف، رقيق، عذب.. وعندما تتكلم عني تغويني بالماء فأتحول عنك لأشرد في المرآة. هل أنت عذب دائماً؟ كم هو سؤال سخيف..
نعم أنت عذب عندما تتكلم كما تريد أن تتكلم - عني - وهذا: يسعدني..
كنت أود أن أقول لك إنني أحببت إشعال شرودك بي، لتكونَ أحلامكَ سعيدة و " منامامتك " عني أكثر حلاوةً.
إنها العاشرة والنصف ليلاً، كان من المفترض أن أكتب لك و لكن عندما يأتينا ضيوف معهم أولاد تصير غرفتي مستودع ألعابٍ وأوراقاً وألوان شمعٍ وثياباً مريعةً فأرتبها قدر الإمكان، لأنني أعتقد أنك ستدخلها من أجل أوراقك، لكنك على كل حال اشتقت إليها.. أعرف ذلك. البارحة كنت أفكر فيما قلته لي ما بين الدعابة والجد، إنك تحب غرفتي أكثر من أية غرفة أخرى في منزل أهلي، لأننا في إحدى زياراتك لبيتنا، جلسنا فيها.. أذكر أنك كنت تلبس قميصاً أزرق مخططاً و بنطال (جينـز) لا أستطيع في هذه الثواني تحديد لونه، لكنه كان داكناً على كل الأحوال.
في ذلك اليوم، كنت أريدك ألاّ تذهب وقد أسميتك حسب منام قديم: "الرجل ذو الرداء الأحمر" الذي حاصرني في غرفة ما وحاول استمالتي. فأحببت أن تظل قربي، يعني ألاّ تذهب، لكنك غادرت لعمل ضروري و عندما رجعتَ بعد ساعة ونصف، تناولت الغداء معنا.. ومن الغرابة أن أبي لم يتوتر من وجودك.. و في حواره معك، كنت تهكمياً بلباقة وعذباً حتى النهاية.
لقد اتصل أخي مرة أخرى و ألحََّ بشأن سفري فتحدثتُ إليه من سريري. لم أع ِ أوائل كلماته إذ كنت لا أزال أفك التصاق ركبتيَّ بدفء الفراش.. تحدث إلي طويلاً قبل أن ينهي عرضه الشائق لما ينتظرني في ولايته..
تحدثت إليه قليلاً قبل أن أمد ذراعاً، تكاد أن تقع، لأعيد السماعة لظل أبي الذي جلس طويلاً على حافة سريري، وأظنه أغفى بذقنٍ نقرت أعلى صدره.. فأجفل قبل أن يتناول السماعة و يمضي بها في الظلام، نحو ضوء الممر البعيد.
لك أن تعلم أنني لم أجد متسعاً لما ألمّ بي.. فقد قررت ألا أبكي. إذاً، كيف أعود للنوم؟
رحت أشكل تخيلاً سريعاً ينتشلني من ورطة اليقظة ليلاً دون قطة بقربي.. فكان:
"الوقت نهارٌ شتويٌ و كنت أحتمي من المطر في قصرٍ لا يحوي سوى قطعة أثاث واحدة أجلس عليها و مدفأة حطب فارهة قضبانها المعدنية قد بزغت من الحائط أمامي.. نظرتُ بغرابة إلى حقيبتي.. و بيد وَجِلَةٍ رحت أفرغها من كل الأوراق التي تخص كلينا و أرميها إلى النار الناضجة.. و عندما تعثرت أصابعي بـ(مصَّاصَة) طفلنا، التقطتها من عودها و رفعتها إزاء وجهي الساخن ثم رحت أقضمها بكل ما أوتيت من رغبة في البكاء و نهم من ليس لديه ما يفعله غير النهم. كدت أكسر أسناني. كدت أختنق بقطعة بلورية أذابها سريعاً بلغم الحنق. كدت أن.. نمت.
صباحاً، بعد أن استيقظت، تذكرت أنني سمعت أخاً يتحدث عن أمريكـا .. تذكرت دفئاً تهرَّب .. تذكرت مشهداً من فيلـــم
(Bleu) أدركت أنني أعدت صياغته إذ خانتني مخيلتي فاقتبسته.. فوددت أن أهشم وجه الممثلة (جولييت بينوش) لكنني استبدلت عنفي بدمعة أرسلتها لها مع أول خطوة أصنعها خارج سرير الصباح..
هاهو حادث السفر يصدم سكينة ياسمينك الأصفر.
بدأت أفكر.. لماذا لم أعد أفرح لكلام أخي بشأن سفري إلى أمريكا للدراسة؟ فقد كان كلامه الأخير من أجل سفري فقط، أخشى أن أستدين كلمتك الأثيرة " تورطتُ".
أحب أن أراك، لكن أعرف أنك ستتأخر كالعادة.. لم أكتب شيئاً اليوم في روايتي، كنت مستغرقة في (كاتالوجات) الجامعات الأمريكية و ذهني متفاوت الدرجات.
أعتقد أني سأداوم على الدبلوم هذه السنة، أردت ألاّ تتأخر اليوم لنتحدث عن القبولات في الجامعات الأمريكية، مع أنني لم أرغب بذلك.
أردت أن نتحدث عن دفتر مذكراتي ولم أرغب بذلك أيضاً.. لماذا تهرب مني؟
أنت من يشغلني فلا تتبعثر أو تتبخر!..
أرجوك..
هذه أول مرة أسارع فيها للتعتيم على القدرية. معك وحدك أعرف لأول مرة طعم الاختيار، كذلك لونه، و مبكراً رائحته.. و لم يبق عليك سوى أن تفتح ذراعكَ وتضمني .. كم أود أن أكون معك الآن.. فلا صوت المروحة يؤكد غيظي ولا موسيقى الناي لتعِّجلَ نومي.. أريدك الآن إلى جانبي.
يخطر لي، ما هو محيطي؟
هل بوسع يديكَ لملمتي ؟
كنت أفكر قبل أن أكتب لك أن أسلوبك في الحديث معي له خصوصية تضع المستمع في مأزق، كيف أزيد من ارتقائي معك؟ لكنني تراجعت، ربما كان أسلوبي ليس مؤثراً أبداً، إلا أنك مستمعي وقارئي الوحيد لما أقوله و أكتبه هذه الأيام.
كنت قد طلبت مني أن أكتب.. لا أذكر تحديداً عمَّ أكتب ، أو على نحو دقيق، عمّا كنت تحكيه لي، لكنني عجزت قبل أن تتفوه بأنني "حزورة".
كم أنا مترامية بك!
لا أركِّز إلا على تشتيتي بسببك، أو من أجلك.. وربما أحب الآن أن أكون معك.. فقد كنت أرسم في حلم يقظة عشرات اللعب الحسية المذهلة كنتُ أجربها مؤخراً.. وبدأت في الفترة الأخيرة أخترع لعباً جديدة تليق بك، بالتوق الذي يهمهم فينا والذي يرشح قصائد منك.
لقد بدأت أحلل مثلك ولكن بسمتي المعتادة. هل تعودتها حقـاً؟ أقصد الترميز. أنني مولعة باجتذابك فلا تستسلم لترميزي.
أنا أقول كلاماً لا أعرف كيف أديره حقاً.
في آخر تخيل أجريته عليك:
أنني قطفتُ من الأعلى ياسمينه صفراء أثناء انتظاري وصولك.. كما أحب: امتصصتُ رحيق ذيلها، ثم حين ظهرتَ، تقدَّمُت نحوكَ بشفتين من وراء بتلاتٍ تقترب الهوينى من أنفك.
هل تعرف ماذا فعلتُ؟.. لقد شرقتُ رحيق الياسمينة و رحتُ في نوم بلا تنفس.
فكرت ألاّ أقول لك هذا الكلام، لأنه إقرار ووعد بأن تجتذبني سريعاً و كما يشاء التوق بيننا.
حاولت مرة أخرى أن أكتب قليلاً في روايتي، أعتقد أنني سببت بذلك مزيداً من الغموض والتفكيك وانعدام الغاية، إلا أنني حاولت، ولم يرضِني ويبطئ من نفاذ صبري - إزائي حتماً - سوى أن أكتب إليك. سأفعل حتماً مع تساؤلي الحائر: ماذا أكتب وأنا أمسك الورقة ويدي ملامسة لخلفيتها؟
أنت مشغول بالعمل و أنا أتحرق نزقـاً إن لم تتصل بي، هذا لأنني شعرت أن اتصالاً مني سيسبب ركاكةً في المشهد فاكتفيت بأن أتوقع هاتفك الذي كان.. شكراً لك... فثمة برودة سكنتني في ذلك اليوم الصيفي.
رغبت أن نذهب إلى القلعة ونستمتع باستعادة مذاق تعارفنا هناك و عندما سنصل إلى أعلى المدينة ستسألني بمكر:
"هل وصلتِ؟".
يا لمزاحك الماكر الذي لا يضاهيه مزاحي الخبيث و الذي نجد فيه التعرق متواصلاً و الهواء يدلف علينا و يجفف القماش على كتفينا. اعتقدت أنني كنت سأموت في إحدى الليالي من شدة استغراقي في حلم يقظة أمضيته إلى جانبك مستلقية على لهاثي إزاء اسمرارك.. كيف أحدثك عن سمرتك؟ إنني أشم عطراً وكأنه عطرك. سأقول لك أنه لم يعد بإمكاني التحدث بكلام مترابط، هذا " الرَّعف" – و الكلمة منك - المتقطع بكلامي الأليف إليك.
إنني أصفُّ كلاماً.. ثم إذا رغبت في إعادة الحديث، أجدني غير قادرة على العودة به نحو مصب أحلامنا.
على الرغم من أنك لا تحب (الريبورتاج) إلا أنه شيء من الإحساس الذي بزغ فيَّ مؤخراً. لقد رتبت المكتبة وأشياء أخرى في غرفتي، وخلال تحركي من مكان لآخر كنتَ أنزل الكتب وأرفعها - كنتُ تراقبني، مسنداً ظهرك دون توجع على الأباجور الخشبي الأخضر اللون، مسدلاً نظراتك على بدني النشِط وكأنها لمسات ناعمة- وكلي رغبة في أن تعود ذات نهار من نهار ما من نهارات أيلول، لنجلس حول طاولتي وأمامنا كؤوس الشاي الباردة.. وحديثٌ لا ينتهي حتى ولو عن سيناريو فاشل لمسلسل تلفزيوني.
قبل أن تأتي وحتى لا أشعر بكثير من الكآبة، أحاول أن ألغي هذه القسوة المباغتة لدي وأنا جالسة على طاولة منفردة في المطعم، حيث موعدنا.. وكما في كل مرة تتأخر فيها، أحاول ألاّ أتوقف عن الكتابة إليك، فلا تجزع من كلمات غير مترابطة ألقيها سريعاً في وجه البياض.. وكنت أكتب: "أرجو ألاَّ تتأخر/ إنك سادي/ وما يريح ضميرك هو أنني أحمل ماز وكية أمامك/ وأنتظرك كل مرة دون لوم/ عندما أكتب لك أشعر أنك معي/ يعني وكأن العالم قد اكتفى بمنحني إحساساً بسلطة ما/ أرجع وأتحدث مع نفسي/ عندما تتأخر عني/ كيف تتأخر هكذا/ لربما أتيتُ قبل الموعد بخمس دقائق لأكتب لك/ لأنه لا بيت لي لأكتب فيه/ أعتقد أن هناك من ينظر إليّ من الطاولة المجاورة/ إلاّ أنني ألبس الناس في أحيان كثيرة/ وأنظر إليَّ بحفاوة قبل أن تأتي/ و حتى لا أشعر بالحرج/ أردت أن أكلمك/ كنت أفكر بسفري ورغبتي في أن نكون معاً/ و كيف أنني أخطو نحو حتفي/ أنت تتأخر/ وبحضورك تبتسم وتمرر بعض الكلمات"..
قد يغُّرك افتتاني بألقٍ تشعّه عيناك فيَّ حين تُلقِ ما في يديك من أوراق على الطاولة قبل أن تجلس قبالتي..
فأحذرك من انخفاض افتتاني بك لدرك الريبة.
أظنني كتبت شيئاً بهياً بهذا القلم، بعد أن جربت طواعية توافقه مع تفكيري. والآن أفكر بسرنا وأخاف أن أبتدئ، لن أبدأ، هو مجرد اختبار لحبر وورق منحني إياه غيابكَ، بديلٌ عن الياسمين الأصفر الذي لا رائحة له.
لم تأتِ حينه، بعد أن وعدتني، رغم أني توسلت مجيئك، كنت كالبلهاء وأنا أحاول خلط كلامي بالمزاح. كان الأجدر بي أن أقولها لك:
"إنني بحاجة ماسَّة لأيامنا معاً" لكنني اكتفيتُ بأن أؤكد لك ضرورة حضورك مساءً، لقد أكدتَ لي برودة يديك.. وأنا بدوري أحجمت عن ذكر رائحة عطرك التي لا تزال تنام على بعد نصف اقتراب مني.
في كل مرة أشم عطرك في محيط غرفتي، أقرب أنفي من ثيابي وأحاول التأكد من أن سبب الرائحة هو اختلاط عطري بعرقي، هذا ما ولد عطرك، لكنني في كل مرة أعود خائبة كمن هم بالطبخ على نار هادئة.. والأصح، كمن انتظر غليان ماء و دُهش بعد عشر دقائق لأنه نسي أن يشعل النار. أود أن أقول إنني لست مندهشة ولا حائرة.. فعلاً أصبح عطرك قريني. وأخاف أن أبدأ الآن بخدش سري.. فقبل أن تسامحني لن أسامح نفسي.
لماذا أكتب لك؟..
ألم أتيقن بعد من أن القلم بجاهزية عالية والورقة كذلك، أنني إنما أحب أن أكتب الآن وأبرر ذلك بفحص الأدوات. وددت أن أبدأ الكتابة، ربما قصيدة ولكن لا أعرف كيف شعرتُ.. أنني دون هوية.
وأنا أعيد قراءة ما كتبت نسيت أن أذكر مدة التصاق عطرك بي. تولَّد قريني العطري منذ أيام… طبعاً لست خائفة، إنما أعتقد أنها رائحة عسل فوق كرزٍ تخلَّل، تلك التي اشتق منها عطرك.
أنت تكتب أفضل مني.. هذا ما انتبهت إليه وحاولت أن أكون بمستواك، لكنني دائماً كنت طرية الكلام.
الأمس كنت مشتاقاً إلي.. ماذا عنك؟
أنت تعرف أني محاصرة بك.. وفي كتاباتي لك أتجاوز سطوراً، أخلق هامشاً بعد آخر، أكتب الهاء بعدة وجوه وطرق - ستقول دفاعاً نفسياً - ربما عن خسارتي التي أتحسس بها ربحي.
سنلتقي اليوم.. هناك سجائر منك وفنجان قهوتنا المفضل واختيارك المتبدل حسب انطباعك عني (هذا فيما يخص الطعام). ثمة رائحة ثياب مكوية تتصعد مني، فلقد تعرقت اليوم كثيراً ، لأنني مشيت طويلاً كي أختار لك هدية. وفي لحظة ما وددت أن أجهز بيتي من ذلك المتجر، على الرغم من التكرار الهائل، إلا أنه مهيب ومرغوب في ذات الوقت، هذا فيما يخص المعروضات..
لا أعرف لماذا أستمتع بالامتدادات الفارسية في حرفي "الراء" التي أكتبها و كذلك في "الزاي" والقفلة المعقوفة، إلا أنني في رسائلي إليك انتبهت إلى أنني أنوِّع في كتابة الميم، أحياناً أكتبها مهملة، وأحياناً ناصعة، لأنني عاشقة بالتأكيد.
سأبتعد بالحديث عن خطي و أقترب من كلامي إليك، أرجو ألاّ تضيِّع رسالتي الأخيرة إليك لأنني أحببتها.
ربما أكثرت من كلامي، حول كتابتي للشَدَّة في رسالتي السابقة ولكنني أعتقد أنك ستغفرها لي، فاليوم حفل عيد ميلادك.
توقفت عن تبييض بعض مسوداتي، لكي أكتب لك ما أحببت أن أكتبه: كلام مترابط... مع العلم أنني عندما أضفر شعري لا أحتاج إلى حبس النهاية (بكليبس) لأن تماسكه الفطري يريح تجعيداته.
لأسابيع وليس ليوم واحد، أحلم أن أختفي في بيتي، في الحديقة العامة معك، كي لأستمتع بفرد شعري لأتعثر به، لِم لا؟ فهو وأنا أكثر من واحد.
أشتهي أن أكتب لك فأجد نفسي منساقة دونما تردد للكتابة. إنني أراك.. أتحدث معك وعندما أنسحب لسريري كأنما كان هناك حديث بيننا وأنقطع فأوصله في الكتابة إليك قبل أن أنام.. وكثيراً لا أنام.
اليوم.. يوم عطلتي لم يحدث معي الكثير.. رأيت صديقتي وأمضيت معها حوالي أربع ساعات، كتبت فيها حوالي الساعة.. وأخيراً استطعت أن أخلق حدثاً جديداً في روايتي التي ستأخذ سنة لتنتهي، أي في نهاية هذا القرن.
لم أكن أتلاعب بك.. بل كنت أتمتع بسطوة سحري عليك، إنما حصل تغير في (كيبورد) تصرفي، لقد جربت أن أضغط على زر (الكونترول) و (الشيفت) سوية، فكانـت النتيجـة: اذهبي (GO!) كبيــرة تظهر وتغيب على التوالي. اضطررت أن آخذ أية ورقة من على الطاولة في أثناء خروجي ولكني حرصت على إباحة القليل من الوقت، لانتقاء الظرف المناسب (!) لأنك أتيت.. فأتيت إليك.
لقد ترددت قليلاً قبل أن أعطيك دفتر مذكراتي السري، لأنني شعرت بأنني كنت مريضة بإحساسي به ولا أريد لأحد أن يلاحظ ذلك، لكنني خفت من أن يكون هناك سبب ذاتي، أن أكون معجبة به بعد. فكرت بأنك لن تقزِّمني، لأنني ربما كتبت محتواه.. والسبب الثاني أنك لن تهزأ مني..أليس كذلك؟
انظر إنني أدَّعي البراءة.
أفضِّل أن أكون صريحة الأمراض معك، ربما لأعطيك فرصة كي تأخذ (مضاد حيوي) بالمقدار الكافي، حصانة عميقة لا يلتفت إليها عادةً حديثو العهد بالزواج غالباً، ربما لأنهم يكثرون الحديث عن الآتي مع عدم التركيز على الحاضر.
ذات يوم تواعدنا، وكان أن بقي ربع ساعة على مجيئك، قلت أرجو ألاّ يتأخر. فكرت فيما سأكذبه على مديري بشأن الدبلوم:
"سأسجل دبلوم لغويات لأن فيه مادة لغة تجارية ما يفيدني في عملي المكتبي".
فمديري، لا يمكن التعامل معه ببساطة، لأنه غير أريحي إلا في عمليات الشك و التجشؤ، إنه غريب الأطوار، ولا يمكن الكسب منه إلا في اللف والدوران ولأنني غبية.. لم أفلح بأخذ فرصة صغيرة خارج المكتب لأذهب إلى الجامعة..
وجدت عندي ورقاً أصفر.. وللحق نسيت من أين جاء، لكن فرحتي به محت اهتمامي بمصدره وتاريخ وجوده.
بعد أن قرأت رسالتك للمرة الثانية فرحت بها جداً، هذه رسالة غالية على قلبي ودماغي أيضاً، تذكرت الورق.. فأتيت بواحدة بعد أن سحبتها بلطف وقربتها من أذني، ثم لوحت بها، حاول أنت أن تقطع القراءة وتجرب تحريكها قرب أذنك، فإنك ستسمع قرقعة أليفة…
اليوم اختلف خطي عن البارحة، لقد لاحظت ذلك للتو، ربما كان من الأفضل أن أكتب على الوجه الآخر للورقة، لكن ما هو جديد في هذا الوجه هو جفاف الحبر بسرعة عجيبة. ويمكنني الآن تثبيت أعلى الصفحة بأصابع يدي الأخرى التي بين سبابتها والوسطى سيجارة من علبتك التي لها نكهة أطيب كما أخبرتك مرة.
على فكرة لم أخنْكَ البارحة، كما اعتقدتَ، بعدم وجودي معك واستقبال صديقتي دون موعد مسبق لها. هذا الموضوع يدخل في مجال العمليات الذهنية الخلفية والطابق الثالث - هكذا سأسميه - وبعد فترة انتهاء دراسته، سينـزل إلى حديقة منـزلي و يدخل غرفتي - ذلك القرار - يوقظني.. وربما ستكون جالساً تأكل مع أخوتي.. وربما أمي أيضاً ستحكي لك عن أشياء لن تحكيها إلاَّ وأنت معنا، الغريب الوحيد الذي بكت أمامه ولفت أصابعه (ببلاستر) لم تلف بمثله إصبعاً لي.
لدي من الوقت خمس دقائق، قبل أن أذهب للعمل، البارحة سقط قلبي ببطءٍ وأنا أفكر بك لكنك عالجتني براحتيك.. وقلت لي: "ما كتبتهِ كان حلواً" فأفرحتني، لأنني ونحن نلتقي على الورق أشعر وكأنني أقصد إزعاجك وأنت تستوعبني لأنك تحبني، لكن على الهاتف عندما اتصلت بك، قلت لي إن ما كتبته كان حلواً فارتفع قلبي من جديد، ثم عاد إلى مكانه.
لماذا في هذه الأيام أتحدث معك بهذه العاطفيَّة؟ لا أعرف السبب، أشعُر وكأنني مترهلة إزاءك.. كأن بي وداعة مفرطة، لكنني أتساءل ما بي.. ما بي؟
في الامتحان، أفكر ألاّ أعيد قراءة الأجوبة لأنني قد أنسحب منه بعد أن أمزق الدفتر، لذلك أفضل أن أتجاهل احتمال رسوبي، بأن أتدلل وأضيف دفتراً جديداً على كاهلك لكي تصححه وتثبت لي كل جملة مفيدة، أقصد دفتر ذكرياتي الماضية.. وتعطيها رقماً من سلم العلامات، رقماً ما، كيف انتابني الشعور بأن محصلتي ستكون صفراً؟
بعد أسبوع من (فتح فأل) بفنجان القهوة من قبل زميلٍ لي في العمل، قال:
بأنني سأسافر!
ولأنه يعرف رغبتي قال: "أمريكا" فذكّرته بأنه في (الفأل) الأول لفنجان قديم قال: لن تسافري إلا بعد ثمانية عشر شهراً . فقال: "ستسافرين بعد ثمانية عشر شهراً إلى أمريكا.. وهناك ينتظرك مشروع زواج". هزّني أنني ذكرت البارحة، رغبتي أن أكمل دراستي في أمريكا فشعرت بالخوف قليلاً، بعد أن قال أنني لن أسافر إلا بعد ثمانية عشر شهراً، بدأت أتمادى معك.. ووعيت كم أنا تماديت.. وأنا لا أبني معك، بل أبني عليك، ما لا أضمن عدم هدمه، أو على الأقل هجرانه. ترى ما الذي أريده؟
اليوم فكرت.. لم أعد أعرف ماذا أريد.
تذكرت رغبتي بأن أكون عالمية ولكنني منذ شهر وأنا أفشل في متابعة كتابة أول رواية لي. لقد وصلت إلى الصفحة السابعة بشق النفس، خلقت حدثاً جديداً و وقفت ما بين إهمال من سيقرأ وبين شد انتباهه وهو يقرأ..
إنني أفكر بالآخر.. بأن يقطع سبعة بحور وسبع صحاري وسبعة جبال ويجلب من رأس الغول الذهبي سبع شعرات.. فربما وافق أبي!.. وأنا مدركة تماماً أنه لا أب لي.. ولست أميرة، إنما فتاة عادية التوجه.. حالمة بالشهادات لتجمع الذهب.
أرجوك لا تكرهني.. فأنا ممَّزقة من الداخل، هذه الرياضة التي نمارسها إزاء بعضنا البعض دفعتني لأواجه نفسي أمام المرآة: أنا بلا أب وبلا لياقة بدنية.. ولا حتى فكرية، أما عن نفسيتي فإنها تسترخص، ٌتستخف جهود بعض الآخرين.. و أنت منهم أحياناً.
التجأتُ لمتاريسي القديمة فاكتشفت أنها أقصر من قامتي. كأنني عرفتُ وشاهدت من كان سيراني. والفكرة فيمن سيصوب ويرمي أولاً.. لماذا هذه الحرب؟.. ألأنني أكره نفسـي؟
أخذت أحد الكتابين باللغة الإنكليزية اللذين أعطيتني إياهما. أحدهما كان عن ستة عشر كتاباً غيروا العالم، كنت أريد أن أقرأ عن كتاب تفسير الأحلام لـ (سيجموند فرويد) ولكن للأسف كدت أنهي القسم الأول دون أن أنتبه إلى أنه كان نظرة عامة عمّا أورده (فرويـد)، فلم أستطع تفسير الحلم الذي راودني البارحة، إنما سأحدثك عنه لتستمع إلي كعادتك: " استيقظت صباحاً وأنا بيد رطبة، عليها بقع بيضاء. أنت، كنتَ واقفاً أمامي، وكانت الظهيرة على ما يبدو، و للبحر لمعان ذو غبش. اقتربت منك، لكنك لم تلتفت، هذا ما شجعني على مسِّ المسافة ما بين كتفيك، كانت بلا قماش ونقاط ماء ضخمة ساكنه عليها، أي جلد أسمر عليه زغب ماء قليل، لكنني وضعت يدي دون وجل.. فأحسست بعقامة فريدة"..
كيف أشرح لك؟..
كان جلدك ساخناً جداً، يضخ كريات ماء، حصل قطع لم أفهمه، ثم كنتَ تلبس سترة قطنية بيضاء لا تغطي عنقك، كنتُ وراءك بخطوة، ثم حدث قطع، ثم أصبحتَ ترتدي قميصاً أبيض، كان هناك تشكيل لوني مدهش.. والخلفية ذات الغبـش اللامع صارت مبهرة الإضاءة.. و أنا مازلتُ وراءك.. أراكَ شخصاً أسمر بقميص أبيض ذي أكمام طويلة. للوهلة الأولى ظننته قميصي (السومون) إذ له نفس (الموديل) ولكن بلون أبيض وأزرار مفتوحة. لم تلتفت نحوي. حدث قطع. ياقة القميص مفتوحة بمواجهتي.. و وجهك تجاه البحر، يعني أنك عكس التكوين البشري. لم أستطع معرفة فيما إذا كنت تسخر مني بأن تلبس القميص بهذه الطريقة فتخدعني، أم أنك فعلاً برقبة تركيب ؟
أعرف أنك إما ستطوي الحديث ولا تتحدث عن سيرة الحلم أو أنك ستطلب مني المزيد من التفاصيل أو ستشرح لي الحلم - أعني أن تفسِّره - وهذا ما أتمناه منك إذ كانت لدي حاجة حقيقية إليك، أعني أن أكون معك. و لكن عدم قدرتك على تحقيق الموعد كان قد أراحني من تساؤلات كثيرة من زميلي في العمل والتي لن يضعها أمامي لأنه يحترم نفسه، لكنه لا يرتاح إلى الفتيات ذوات التحركات الغامضة.. و في الوقت نفسه لا أريد أن أشرح ما بيني وبينك لأي إنسان.. فكان اعتذارك في محله لأنني لم أرغب في أن يوصلني إلى القلعة حيث موعدنا.. ولا أريد أن أقول له: إنني ذاهبة إلى البيت.. فربما أصادفه في مكان ما في منطقة القلعة تبعاً لمقتضيات عمله.
لا أعرف فيما إذا كان تهربي، هو رغبة في إنشاء سر ما معك - حسب كلام أحد المحللين النفسيين - أم أنني على قدر من الجبن و النذالة.. لا.. فأنا أريد أن أمضي معك أوقاتاً كثيرة، لكن أختي تعلّق على رسالة منك إلي.. حاولت كثيراً أن أقرأها قبل أن أنام.. فذهبت للمطبخ، بعد أن تأكدت أنها تشاهد التلفاز ولكن للأسف دخلت ورائي ككتلة غلاظة وسألتني من أين الرسالة؟
هي تعرف وتريد أن تقرأ..
فأبعدت الورقة وقلت لها: إنها من صديقتي.. بدأت تسخر مني وهي خارجة فأحسست بدودة بطن تسبب لي البكاء.
دخلت غرفتي واستلقيت على سريري المهزوز، بعد أن قررت أنني لن أقرأ، ولن أبكي..
لكنني أشعلت (نوَّاستي) وقرأت.. وبكيت. كنتَ في الرسالة تعبر عن حالات شفافة بكلام يوحي، هذا ما أريد أن أقوله لأنني لم أبكِ بدموع مائية فقط، بل و لعاب جروٍ تائه أيضاً.
متى سنلتقي، أرجو ألاّ يكون هناك عذر وإلا سأضطر أن أحاصرك برسالة من مائة صفحة.
كنت سأطلب منك ألاّ تزورنا في المنـزل هذه الأيام، لأنني أشعر وكأنني مطالبة بإقرار ما، اعتراف ما.. تحت الضرب التجريدي و لا أريد أن يكون ما أقره من باب الإهمال ولا عن هيام توحُّشـي..
أريد أن أكون معك خارج المقولبات والأمثال الشعبية وأكثر ارتياحاً من لقائنا معاً في المنـزل.
خطر لي أن نلتقي في القلعة، إذا حدث زحام في المطعم.. وإذا عدت لتفسيرات (فرويـد) فسأجد أنني قد أردت المطعم ليس من أجل التحدث وإثبات الذات، بل لأنني ببساطة سأنام اليوم وأنا جائعة.
ها أنت تتأخر. مالذي يبقيني أنتظرك؟
ألذة مرتقبة لحديث لن يكتمل؟
إني عائدة إلى البيت دون أن أتصل بك كما قررت سلفا،ً عندما أدخل المطعم لم أجدك و لا مرة بانتظاري..
حرصت على أن أقرأ رسالتك البارحة. كان فيها إغراء.. لم أنتبه له في البداية، لكنني تَّلمستُه بعد حين في ورقتين من بتلات جوريّة وردية اللون و برائحة لذيذة (كلمتك عني). إنني عديمة الترابط.. على الأقل معك، ربما لأنني أحسـبك مديناً لي بمقابلات كثيرة. أحببت أن أكتب إليك لأن أمراً لم أجربه يخوض في إغرائي، لكنني سأذهب إلى حفلة إعدامي الأسبوعية بعد أن تفحصت أموري فكانت حرارتي عالية.. طبعاً إلى الحمام.. لأستحم.
ليس لدي تركيز وأنا أكتب إليك، لا أقصد تركيز كتابيّ إنما هناك ما يعتمل في خيالي الذي بات يعاني من فوضى وئيدة.. اعذرني لن أكمل الحديث.. ولا حتى الكتابة إليك كنت أود أن ألقاك، فربما لقاؤنا يجعل من مكوثي وحيدة في كتابتي وأنا أتخيلك فقط: سلسلة غير مترابطة.. ولن أسميه اكتشافاً هذا الذي اكتشفته، بل سأسميه- حكاية ضئيلة ولدت بين أصابعي- ولك أن تعلـِّق عليها.. و أن تثق بأنني لن أرمي ولو بواحد بالمائة من تفسيرك.
لم أنقطع عن التفكير بك..
و في الصباح عندما لم أتذكر ما قلتُه تماماً لِمتني. كنت أكبر مني.
اليوم جميل.. جميل ولا يسعني سوى أن أشتهي رحلة معك.. إلى قلعة سمعان، لكي أحقق جزءاً منك في غرفتي. وضعت " كاسيت موزارت " في المسجِّل فدخل الصوت تماماً إلى جسدي. البارحة اتصلت بك كثيراً لأقولَ لكَ أنني توصلت لما عجزتُ عن صياغته من قبل و هو أنني مثلك تماماً.. لست محصَّنة ضد تعاطي الناس و إنما أفقد أحياناً - ليس قدرتي - بل مبرري لا لإتمام عملية عزل فورية و نهائية فقط.. إنما لعدم البدء بها أصلاً..أي أنني أتعاطى الآخرين ربما بقدر أكبر مما تتعامل معهم أنت. و العزل الذي كنت أتحدث عنه و أنا أحاول تصريف غضبي بمشي متشنج على رصيف ذي شجر مقَّعر، سوى عزل الآخرين عن الـ(نحن) ليس إلاّ..
لك أيضاً أن تصمت إزاء ما أحكيه لك وفي يوم ما أتوقع منك، حسب اللهجة المصرية (علقة سُخنة) لكنني سأضحك مع ذلك، ليس لإغاظتك، بل لأنني أجدني متعددة الضحكات معك.. ضحكات لا أستطيع أن أصنف أنواعها فشكراً لك.. لأنك صنفَّتهَا لي.
سـأشتاق إليك بعد سفري.. و أعرف مع ذلك هذا الشيء الذي سيبقيني هناك. ربما يعنيك، أعرف ذلك، أن أحاول التثبت من حقيقة أنه حتى في التوأم "السيامي" اختلاف صبغيّ ما.. ربما لا تهتم بأنني بدأت أعي أنه لا جدوى من خلق أي تناظر إن كان بين أواني الزهر أو بيننا نحن البشر..
ما أردت قوله و أنت تعرفه الآن، هو أنك كنتَ مختلفاً حقاً و لهذا سيكون طبيعياً أن أكتب إليك الآن: أرجو أن تكاتبني.. سأكون ممتنة لك.. حقاً سأكون.
القسم الثاني
" تكوين معنى"
السفر إلى أمريكـا هو الغياب الأكثر صدقاً في التعبيـر عن حالة النفس في لعبة مارستها معكِ.
طبعاً لم أكن أقصد أن أستعرض أحد نماذج الرياضيات التجريدية إذ لم يكن حضورنا المعلن والظاهر إلى درجة الصفر ليؤسس في المقابل "الغياب الأمريكي" في معناه ويقينه، و من ثمّ إننا نزداد حضوراً وننتقل إلى ما هو مباشر وحاضر وظاهر ومرئي، حتى نكون في حاجة إلى ما هو غائب.. زيفاً وقياساً إلى عمقه.
لم أعد أرغب في تحويل الحضور إلى عمقه ولا انقلاب الغياب إلى حضوره، والذي هو في أعمق معانيه: العشق الأبدي - درجة الصفر في تأسيس مقابل الغياب.
تتطلب الأحاديث التي بيننا تبادل أسئلة عن المفهوم والمبررات ثم العلل والنتائج.. فتكون في الاتجاه نفسه، لأنني على الرغم من استغراقي في القراءة مستلقياً على الأرض لسنوات، إلا أنني ما زلت مشترطاً بحضور الفكرة ومقترناً بغيابها.. ما زلت أشعر ببرودة في "بطني" حتى هذه اللحظة..
والآن بقي لي الصفاء.. وأي صفاء هذا الذي يمكنه أن يمنحني براعم جديدة في حياتي.. فقط أنتِ التي تملكين الربيع من أوله إلى ما لا نهاية.
أقف هذه الأيام مشدوداً إلى حتفي الذي يغريني بالتواطؤ معه، لأنه لم يعد ممكناً لي رسم أشكال مختلفة.. هناك تشكيل جديد وحواس أخرى.. هناك عاطفة تشد ما وراءها وتسبق كل من أمامها.
لن يتمكن عامة القراء من ضبط عملية التواطؤ بيننا لأننا نبلغ من الجرأة ما يكفي لصياغة كثيرٍ من الأفكار ونشرها مع قدرة التفكير الممتع حول ما هية الـ(نحن).
على الرغم من أي تعريف للـ( نحن) لا يحتمل أن تتشكل له صورة، لأن الأشياء كالأموات والـ(نحن) لا يمكنها أن تصبح شيئاً يدرس فهي ذاك الميل غير المعتاد وغير المتبدد في مقابل المفرد، والذي يحمل هو الآخر شيوعاً لم نقربه.
إنكِ في هذه الأيام غير مقنعة؛ على عكس ما كنتِ عليه لأنكِ تتمسكين بالقوة وتجنين على نفسكِ خطر تحديد الآخرين، هذا تناقض في الهوية ويبقى استثناء الغموض هو نفسه سبب فشل تفسيرات الرموز حولكِ.
إننا على الأغلب نؤمن بوجود معانٍ صحيحةٍ وأخرى خاطئة، ونعترف بأن الآخرين كذلك، فنكون أمام الكشف النهائي والذي يحمل لنا النبوءات ثم نستطرد في إحراج الآخرين حتى يتحملوا مسؤولية ذكر معانيهم وأن يكونوا صريحين باتجاه أي تصرف مخالف لذلك، تصرف لفهم المعاني الشاملة، فتكون الـ(نحن) فكرة الوضوح وميزة لا بد أن يفهمها الجميع، وحقيقة وهبتها اللغة لنا، لا تحتاج إلى تبرير. هذا الإيهام وتلك الفكرة الرفيعة يجعلان من ضرورة اختفاء الـ(نحن) أملاً جديداً و يأخذنا الواقع إلى ما نريد، وأنتِ تنهكين نفسكِ بالإسهاب، لتخفيف الرغبة في الاستسلام.
إنها اللغة التي أتحدث بها والتي ترسم شغفي ما دام التحدث ممكناً.. وأنتِ لم تتوصلي لقناعة ما، بل تزداد المعارضة لديكِ كما لو كنتِ تعترفين بالنفحة نفسها.
أكتب بشغف وأتحدث بشغف لأنني تساءلت عدة مرات.. لمَ كل ذلك؟ وللحظةٍ.. صوتٌ يجعلني أشعر بالنور.. صوتٌ يسرق مني قوة التساؤل وقوة إعادته.
أرسم كلماتي التي شدتني إلى حتفي.. مما جعل صوراً كثيرة تتراكم فيها.. فكان ليديكِ طعم التين.. ويبدو لي ذلك من حرارة جسدي والتي بواسطتها أختزل قدراً كبيراً من الممارسات لنظام له معنى.. أي من سخف النظرة الأولى إلى نظام له معنى.. مئات الصفحات لن تكفي لتقديم شيء مفيد لهذا الموضوع فأرى لجوءات.. إشباعات وهمية بديلاً عن الإشباع الطويل الأمد الذي يحققه غموض تلك الكلمات المرسومة لديكِ، كانت كتلةً صماء.. وكان شرودي يناورني.. بوهم الادعاء بالحرية، والتمسك بالطبع وبالروتين المزاجي لديكِ إنهما متناقضان في المجرد متكاملان في المحسوس.
أذكر أنني تحدثت إليكِ في رسائلي عن القلق والاكتئـاب..
وكان شرودي يأخذني إلى الصباح وأكون غير قادر على تحمل القلق.. أما الاكتئاب، فأنا بحال أفضل الآن لأنني لجأت إلى إشباعات كثيرة وبديلة عمّا كان في الماضي وكنت أبحث عن أي مسوغ لأعود بكِ، وكنت فيما مضى أتحدث بدقة عن هذه المكاشفات كالحضور والغياب فأذكر أنكِ كنت مولعة بحضوري وأنا مولعٌ بتوزيع إنتاج الوعي المطموس لدينا بفعل إجراءات الرقابة حولنا، فكنت أنطلق إلى حب الأشياء التي حولكِ إلى الروتين المتناقض والمجرد.
أذكر أنكِ مولعة بالماء وأذكر أنني مولعٌ بعذوبته، ثم إنني لم أرك البارحة في الحلم.. فتخليت عن الماضي وبدلته بحلم مزعج.. وأنهيت جحيماً مزعجاً كفيلاً بأن يودي بنا إلى انقلاب معرفي، فكان الهاجس الذي قَّدم لي تبريراً، ويبدو لي أنه غير سليم وتداولي لانفراد المعنى فيه.
أجد نفسي في كثير من الأوقات، أفكر بالتلاقح مع حقولكِ والتسليم بحتمية التجديد حتى يتسنى لنا التجاوب لانفرادنا بتلقي لغة تنتقل الصورة منها مختلجة بالشك.. لأننا لن نتمكن من تصويرٍ راهنٍ للجسد أو حتى موته، بل وصلنا إلى المطابقة مع الصورة المثلى - كما هو بالنسبة للحيوانات الأخرى - حتى نمتلك القدرة على ابتكار العلامات؛ ابتكار نعتمد فيه على بناء العملية الأولية لخلق اللغة، وإن لم نستطع ذلك فإننا نشبه قراء القصة المكتوبة بدون توافر شروط الوعي.
فالـ (نحن) أكثر وضوحاً من طرح محاكاة لا تصل إلى مطابقة الصور بين سطورها، بل تبقى نسبية. وحتى في غياب موضوع ما عنَّا، كنا لا نؤكد أن المعنى التوصيلي مستقل، بل كنا نرصد مقام اللقطة كوحدة تعبيرية بوصفها فناً معرفياً وجدانياً غير ناطق. إنها أفانين الشعر.. فإما أن يكون العمل مرتبطاً بالمستوى الثانوي، وهنا نحتاج للتصفيق وإما أن نكون على قدر كبير من الحركة، وهذا لن يفيد في تحولاته البطيئة التي تتكئ على مأزقها في الترتيب والمقارنة، و قد تأتَّى كل ذلك حول فهم الاختفاء والظهور في مستوى الظاهرة/النموذج لديكِ.
كانت حاجتي للانفراد بكِ في أشد مستوياتها إلحاحاً، لأن ما يتغير ليس إلا عنصر الحبكة بيننا.. فللكلمات وظيفتها، وهي تحديد المعنى أو حتى القدرة على التقديم.. ولأسباب واضحة عبَّرتُ عنك بأروع لحظات الصدق المخفي.. ثم إنني تدارست الأمر مع شرودي حتى أصل إلى مفهوم الفكرة المسيطرة عيكِ والتي كانت تشغلني.. وهذا لم يكن بالمصادفة بل لأنها من أكبر وأخطر المشاكل في أية علاقة بين اثنين رغم وجود تجلياتها. ما زلت أرى أن الخطاب اعتمد عندكِ على تعدد الوجوه، فهناك أفكار ودلالات من طرفي وعدم اعتماد الرمز منكِ، لذا جاء تعاملنا مستيقظاً على إثارة الأسئلة لعدم جدواها، رغم أهميتها بالنسبة إلينا.
ثم إنني لم أستطع التحكم في حواراتنا لأنني كنت مرغماً على مداعبة حواراتكِ معي، فكنتِ تجاهدين لبناء نص على أساس حق التقابل و على أساس حق التضاد أيضاً.. فأرى أنكِ ترغبين في التقابل أكثر.. وفشلتِ عدة مرات في تحقيق حق التضاد، لأنني كنت أشير لكِ إلى مجموعة الظروف المرنة حولنا والتي لا تخضع للتحديد.. وهذا ما أريده وأظن أنه يصلح للإشارة.
أستدرك الحديث عن رسائلكِ لأقول إنها كانت لإنطاق الصوامت.. صوامت النص، وليس من قبيل المصادفة أنها حالة تفريغ، فكنتِ تحاولين الربط بين أنساق الكتابة وكنتِ تفصلينها في صفحاتكِ.. وهذا ما أعطى للنص حرية مطلقة، لأنه كان مسلحاً بالوعي وبإعادة كتابة ذاته، هذه ميزة تمنح مشروعية لا نهائية لكِ.. لقد اكتشفت إنطاق الصوامت، إنها لصيقة بكِ، ولصيقة بالرسائل المتبادلة بيننا.
والتأسيس.. هو تأسيس كل ما نتساءل عنه.. لأننا فرضنا علاقة بدت لنا تحمل طاقة تجعلنا لا نتجاهل إنجاز الأيام السابقة لأننا وددنا الدخول معاً إلى فكرة الفراغ، وحاولنا حصد عنصر الإزالة، لنُنشأ الفراغ الذي نريده، أي أن نخلق التوازن فيما بيننا، وإن لم يكن التوازن لوجود غيبة الإحالة التي كانت نوعاً من المداعبة ليس إلا. مازلت متناقضاً في عرض سعادتي وتعاستي أمامكِ، فالنجاح والفشل هما المعنيان بملء الفراغ، ولكنهما لا يمنعان رغباتي.. طبعاً لا أريد ممارسة تكتيك ساذج هنا، فأنتِ ترفضين ذلك، بل أريد أن أؤكد بعد النظر، أمام النجاح والفشل، فهما بعيدان عن كل تقلب المصادفات بيننا، ثم أجد نفسي معكِ نحيا احتفالاً لغوياً راقصاً بعد أن ابتعدت اللغة في إجازة، لتخرج من أعبائها اليومية وحتى التمكن من إنتاجها لا من استهلاكها. وهذا ما يساعدنا على إيجاد حلول كثيرة للنجاح.. وأن يكون له معنى وبالاتجاه إلى موقع أكثر ليونة من ذي قبل.
أما حديث العشق فهو حديث مشحون وبحاجة إلى تفسير الرموز وفك ارتباط التقابل فيما بيننا.. لأن الرموز التي تعتمدينها، صرت أراها عاطفية.. إنها أقوى من أن أتقبلها بوصفها مجرد تمثيل وحوار.. حوار مغاير لأحاديثنا، وحتى لإعادة كتابة تلك الأحاديث، والتي كانت كمرآة جديدة، وأكثر هباءً مما سبقها من أحاديث، وهذا ما جعلني أدير الأحاديث معكِ بشوق و يقظة.. فما زلت أغزل لكِ أحاديثي.. وهذا ما يريحني.
لذلك لا أستطيع النوم في هذه الأيام، ربما لأنني سكنت في ورطة النجاح، وعلى الأغلب هذه هي حياتي الجديدة.. ومبرر شوقي إليكِ، هو أنني أراكِ نمطاً مجسداً، ولن أكون في صورة نهائية وخارجاً عنكِ، إلا عندما تكونين قد فرضت عليّ رهبانية العزلة.
هذه اللغة تسكنني لأنها خاصة بي، حتى أدرك مصدر أحلامي.. أضمها.. أتنفس منها، هي الوسيط المطلق بيننا.. فقد كانت تسبقني إليكِ في بعض الأوقات.. ليضاف إليها تناقض أدائي نحوكِ. و لن تكون إلا صورة لما أحمله وأنتِ تتلفظين الدهشة، وكل دهشة عشق هي بعيدة عن أطراف التفسيرات القديمة لديكِ. لقد كانت اللغة موفقة بيننا، وكنتِ أنتِ أيضاً موفقة، وهذه الخصوصية المنفردة سبقتني إليكِ.
لا أريد أن أجعل خيالك مضطرباً لأنني مدينٌ لكِ بمقابلات سابقة وقت كان خيالكِ ميئوساً منه، لأن الرموز بيننا كانت هي الوحيدة التي لم أتألم منها بل تمتعت بها.
ربما من المفيد أن نكون قد بدأنا متأخرين لصنع التوازن بيننا، لأننا نزخر بالحياة و يتقابل فينا هدوء التوازن.. وهذا ما تسبب في إبعاد غربتي وغربتكِ وفض اشتباك حاولنا معه عزل خيوط شعركِ ضفيرة ضفيرة لتحقيق نوع من الهدنة بين ما هو ظاهر وما هو باطن أمامنا. لذلك كُنت معكِ أكثر صلابة في تعاملي، هذا ما كنت أرفضه سابقاً، إلا أن التمرد، هذا الكائن المرتد، جُمع مع كابوس الصفوة و كأنه تجسيد درامي لضفيرة المزاج العاطفي لدينا..
مازلت أذكر أنكِ حين تلمعين.. فإنكِ تلمعين أكثر.. وأكثر مما تحتمله بصيرتي الهشة، وما أراه يومياً من الأشياء أنكِ أكثر ليونة مني ومن الحجر..
أتصور أنكِ تحملين رسائلي إليكِ إلى المطار.. سيكون ذلك نسفاً لتاريخ تدويني.. أما الياسمين الأصفر (الـ)بلا رائحة الذي أهديتك إياه.. فهو كاللغة التي كانت تتجلى معنا.. والتي هي الأخرى رسمٌ لذلك التدوين بالنسبة لي على الأقل إن جاز ذلك التعبير.
إنني أحاول تدمير أجزائي باللغة التي كنت أستقبلها منكِ مع ضحكاتكِ الفالتـة، وحتى عهدٍ قريب كنت أسعى وراء الخلاص، والهرب من أكثر الحلول ارتباطاً بالفردية، والتركيز على أحد أضلاع المثلث دون آخر، حتى لا يتم توسيع الواقع أمامي بشفافيته المعتادة.
أما تجلّيات الترف لديك فقد أصبحت مختلفة لأنها تؤسس لنسف الذاتية خارج دائرة القياس مقابل التفاؤل الذي هو ميزة للانبهار، وليخلق هذا المقابل تطوراً لاحقاً لتجديد حالة كاملة يألفها أي اثنين وإن احتاج الأمر إلى التزود مبكراً ببعض أثقال الماضي..
فالمرآة الصافية تجعل الواقع ينـزوي إلى ركن حاد، وهذا الانزواء ما تعد به المحطة المقبلة من حياتنا معاً، فأجد أنني كنت أؤسس لنسف الذاتية، هذا إن اعتبرت ذاتي خارج دائرة القياس مع الآخرين. لذا أعتبر أن التفاؤل في حياتي كان ميزة للانبهار لتتبع جذور بناء ما أعطيته لكِ. أما التطور اللاحق، فسيكون صورةً مغايرةً لما كنا نسعى إليه، لتجديد حالة كاملة يألفها أي اثنين، وأرجع إلى اللغة وإلى الحديث عن الـ( نحن)، لأنها أفضل جزء من الحالة التي نحن فيها. ومع ذلك فأنتِ كنتِ مجازية في الحوارات التي جاءت بيننا، انعكاساً لعمليات الذهن نفسه، وهذا ما ترك الساحة لبعض الأفكار لدينا لتلتقي مع القدرات اللامحدودة والتي فتحت مجالاً للثقة الزائدة بالذات، فكنتِ تربطين بين دلالة الكلمة و تاريخها وهذا ما مهَّد الطريق لقيمة الـ(نحن) لتكون لغة مدهشة آنية ومستقبلية معاً، الأمر الذي جلب لنا إرهاقاً كانت تتم تصفيته في أواخر المساءات لانحرافه باتجاه الصمت و نسجه لمقتبسات تنحصر قراءاتها بما يمكن أن يُتَرْجمَ إلى مفارقات تتحدى في تناسقها وتماسكها أي إطار للوجود المسائي الذي كان يجمعنا بوصفه حضوراً لا يمكن السيطرة عليه إلا بالانتشار.
إنكِ أصعب من أي كتاب قرأته فيما مضى، ولم يعد بإمكاني تفكيكه، إنه كتاب قد تم وضع الملاحظات واللمسات الأخيرة حوله، وحول مواضيعه.. كتاب يفسر ظاهرة تدل على غزارة في النص تخضع لتفسير لغوي مركب. أي إن مساءً جميلاً معكِ سيكون جميلاً حتماً دون تفسير ليبقى أمامي الاكتشاف الجوهري، ألا وهو أنكِ الآخر الذي في داخله، وما قبل الكتاب يضعني أمام وجه آخر له خارجه.. فإنني معكِ حتماً وبرغبتي في نظراتكِ المتسللة نحوي..
بعد ذلك أراكِ مع الموسيقى وزهور الياسمين الأصفر العديم الرائحة.. لكِ الأصابع نفسها.. أصابع الزهر المنثورة من فمكِ المعترض دائماً.. فأعترض الهواء ثم أتعثر لوحدي.. ويبقى ظلي مستنداً إلى جدارٍ ما.. يسترسل كخيطٍ.. ثم يتضاءل و يتضاءل حتى يشف ككأسٍ واهن ينتظر على حواف شفاه متخشبة.
حقاً ما الفائدة من إعادة الرائحة لزهر الياسمين الأصفر في هذا الزمان بعد أن طال غيابكِ بالسفر، و إن كان الخيال الملازم لنا صفة لوجودنا معاً، لذلك كُنتُ دائماً أتحسس الفرح بما أخذته من اللغة، لربما يعطيني رهافة تثير الإعجاب.
على الرغم من الإشارة إلى الإنجازات التي كانت تنحدر إلينا، بعد كل حديث متفرد، لم نستحضر كل وسائل التمثيل والتعبير بالأحلام الملونة، تلك الأحلام التي كانت تراودنا بصور مرئية، وكانـت أمامنا كائنات مطبوعة بصور وكلمات، فكنا نمشي في حذف بعض عناصر الغموض المتباينة من مكونات أحلامنا بين الصورة والكلمة، ونتذكر النظرات المتبادلة بيننا، ونحفرها ذكريات تصل إلى حد الحذف، استعداداً للتعامل مع مشاكلنا التي كانت تمكث في أحلامنا لتثيرها حتماً.
كم كنتُ أتمنى أن أمشي معكِ نحو كل المسارات التي رسمناها، حتى يكون بالإمكان تسجيل مذكرات عن الفترة الماضية، حتى يشاع الخبر عن علاقة بين اثنين.
ها أنا أذكر العام الخامس من انتهاء تاريخ التدوين بيننا، وبعده بقليل جاءت الأحداث والحوارات متقطعة ورسماً طبوغرافياً لصور شاعت وطبعت، والغريب هو الجزئيات التي تراكمت فيها الحدود والمسارات لديكِ، فابتعدت عن الشفافية في هذه الأيام، لأنقذ نفسي، وليتداخل الحزن مع التواصل معكِ، لأن كل ما حاولنا أن نتميز به هو الاستعراض، فكانت اللغة بيننا ترسم حكايات مراهقة تجعلني أستغرق في التأمل، ليتاح لي إنتاج مفارقات أحاول بها جاهداً توحيد النص المكتوب والقول الشفهي، الذي كان يستغرق ساعات طويلة معكِ في التأمل، كي لا نصل سوية إلى شيء.
هذا هو العام الخامس.. به انتهى تاريخ التدوين، وهذه أيام أخرى يتسنى لي العبث بها، لأنني مازلت أذكر أنكِ جميلة، وشفتاكِ اللتان كان ينبغي لهما أن تتدربا على الصفير جميلتان أيضاً، وهذا ما لم يعد بإمكاني نسيانه، وهو كل ما أتذكره. كانت الأيام الماضية تحمل ألحانها، لأن الأوصاف التي نمتلكها من شأنها أن تلتقي مع فراغ النفوس عن غير قصد، لتستوعب الطابع الجهنمي أسفل الجذور، هناك حيث مقرها.
والأزمة، أية أزمة، لا ينكرها أحد منا، لأننا وجدنا أنفسنا في بوتقة الأحاسيس.. لقد كنا نتحدث عن تأثير الاستعراض بيننا، فكنا ندلي بقولنا عن جميع الصفات الواصلة ما بين العقل والإحساس، ونحكي عن مغامراتنا، يرافقها صوتٌ لموسيقى، موسيقى تحمل صفة السري أكثر من صفة العياني، و نعيد اكتشاف مظاهر التواطؤ، ونبادر لسماع تلك الموسيقى، دون أن نستطيع اكتشاف أشكال جديدة تثير الحماس، حماساً لا يغني شيئاً عن علاقات تختبئ داخل عادات موروثة ورديئة بمظهرها، لتكون الدعوة إلى التنافر بتواتر عالٍ، ليكون الكلام وحده يستدعي خروج محتوى المعجزة "النطق"، هذا ما يجعلنا نخضع لحركة تحول معادٍ لجميع المبدعين، وألا نسترعي انتباههم، وأن نضع جهدنا في حلم تفصُلُه الحوافز الذهنية عن الحوافز الإدراكية، نُعلن نزاعاً مكشوفاً مع الكبت لنتمكن من تصوير انطباعات حيوية وليست إنجازاً للتباين.. لتبقى صورة الرعشة لإشباع رغبات لا واعية، أمام الدافع الأعمق لإطلاق الأصوات السكونية، حتى لا يكون ذلك محض إشارةٍ، أو دليلٍ أو صورةٍ غامضةٍ لنا، ولكي لا نُحرم من العمق الكثيف، ومن العادة المملة للتفكير بالملذّات المتعالية.
عادة ما تكون الطبيعة صامتةً، ذلك هو الميدان الواسع والفاعل لها، ليبقَ العالم صورة عن عملنا، لنخلق وسائل مكشوفة بالحب، حتى لا يتسنى لغيرنا أن يقع عن طريق الزمان الصاعد إلى القلق، وألا ننحدر مع الآخرين للشكوك بتحويل التاريخ إلى أصوات منهكة، تضم كلّ الاعتباطات الشجاعة، و تحقق إنتاجاً هائلاً من الخسارات.
و ليبقَ لنا التأمل، فإما أن يكون التأمل هو الحالة الشفهية الأولى، وإما أن يكون الثانية، لأن ما من تأمل إلا وتسبقه سخرية تصل إلى حد المتاهة، ثم تنتهي وتتبخر في الضوء، ثم تحمل من يخوضها إلى أفق من التفصيلات الصغيرة.. وبعدها يجيء الحدس ليسير بانسجام تام مع هذا العالم.. وأي سديم يجيء إلينا بطيئاً، كأنه زمن الانتظار، ثم تسدل الستارة وهي منصرفة إلى متاهتها الشفقية..
للستائر أفق يغلق الابتسامة، ويلغيها التأمل الفردي.. هذا الأفق هو استحقاق إنساني يتراكم لإقرار المتاهة كحل جديد من أجل التبسيط، ولينتقل التراكم إلى أفق على شكل شريط سينمائي، يمر أمام الذاكرة، ليرسم صورة لما بعد الانتظار.. و في الوقت نفسه تكون الذكريات مستباحة من الجميع، وفي أكثر الأحيان ليس من قبل أحد، فهي ذكريات إما أن تموت يابسة، وهذا ما يأتي بالاتفاق، أو لا تموت.. وتصاب بالالتهاب.
أما "المشوار" فهو نقطة في اتجاه النظر، هو التفاتات منتشرة عبر أسلاك العين، له صورة الانتظار، وخيوط عنكبوتية، وبقايا من شحّار متطاير، أو دمعة مالحة ترقد أمام السكون لاكتشاف المحاور المبهمة أمام أي انتظار.. فالانتظار يرتب نفسه أمام الآخرين حسب رؤاهم، لخلق لوحات بلا أطر وبلا جدران للتعليق، لوحات ربما تكون أكثر عصرية مما نتوقع.
وتأتي الهزة، أية هزة تحمل صورة للخلق والتشكيل كحالة السجود.. فتكون منقلبة دائماً.. وبعدها يرصد التأمل تفاصيل الانتظار، ويضعها خلفية للوحة تتوغل في مناخ الكابوس السوداوي، وتشكل خريطة مستسلمة من دوار يعصف بالرأس والعينين وهما معصوبتان بمنديل أسود سميك، وكأن الانتظار يسقط في حفرة ويموت إنجازه في التشويق، فينقلب المبدع من جديد إلى سكونه الدائم، ليلائم ارتفاع الهضاب، ليخلق في العيون حالة جديدة من الانتظار، حالة محمَّلة بأفكار وتأملات.. فتكون النظرة الثانية للهضاب إعادة إنتاج قريب من حيث يمر هذا العالم. إن مهارتك في التأمل، مهارة لا تخلو من الأمل، تفيد في رؤية الوجوه وتحولها إلى تذكار.. تذكار لأبسط الصور الحية بعد انطفاء الخرافة.. خرافة الحب التي نعيشها. ونكون قد فضحنا كل الأسرار الشفهية، والتي كان الانتظار يأخذها عندما يحل الظلام الخارجي. لذلك كنت أشتهي أن تكون كل الصباحات والمساءات معكِ مثل حالة الانتظار، لأنني في غيابكِ أتحسس استنـزافـي في يباس راعف، وأتنـزه خوفاً من إثارة إغرائكِ، فالطيور المهاجرة تبني أعشاشها، فيجيء الفرح، من ثم موتها في استغراقها بالشرود الذي يحيط الفرح..
كالبوابات الضيقة أستدرك ما فات، لأعيش معكِ بشفهية معتادة.. هي المحاولة الأخيرة لتوسيع الحضور بيننا، والوسيلة الوحيدة لإنتاج معانٍ تربط بين اللعب والجنون، كما تربط بين المصادفة والفوضى، فهذا التصريح كنا نحطَّمه ونطمسه، ففي كلماتكِ محاولة لإخراج المعنى، بلاضافة إلى أنه لم يعد بسيطاً منكِ أن تحاولي ذلك لوقوفكِ بالضد مع الماضي بذهنية مرتبطة بتقاليد التحطيم الجاهز لأحلام الفتيات.
هذه الذهنية لم ترضَ الضياع والتشتت، بل القليل منه حسب معطيات قيمة الجسد لديكِ. طبعاً لم أكن أريد أن أرتب أفكاري، أو أن أجعل منها ترميماً لغوياً، حتى لا أراكم نظاماً لعلاقة بديلة، علاقة تراهن على الموت.
لقد عشت المصادفة و الفوضى مبتكراً ربطاً حديثاً بين الجنون وتقاليد اللامبالاة.. هذه نتيجة أعرفها ولا أريدها.. فقد أستهلك كلٌّ من نزقي وتوتري أكثر المساحات من دماغي الطري.. ولم أعد متشائماً إنما خائف على مضمون علاقتي بكِ.. هي نوبة حذر حتى لا ينكشف الحلم المرئي أمام الواقع المبعثر الصور، فنترك كل شيء عندنا في الشعور للحفظ وليس للتبريد. سيبقى الشعور مستيقظاً والوعي واثقاً، أما الجنون فهو الساعي إلى تغيير البدائل.. هذا هو التفكير الضروري للبحث عن بديل يخصنا.. لقد كنت دائماً أحاول الحوار معكِ، من أجل سبر حالة الذات، ولتوسيع دائرة حضورنا، وتثبيت مركزه..
كنت أتنـزه ريثما يحين موعد ارتكازي وشرودي، وريثما يحين موعد ثباتي الذي لا يُمْسَك.. لربما أستحضر روحي على أية طاولةٍ كنا نجلس حولها.. فلم يغرني الشفهيُّ بمقدار إغراؤك؛ أما الكتابي فهو جمل متراكمة، للتواصل معكِ بحرارة غير معهودة، أما السقوف العالية فهي هراء بل محض هراء.. وحتى الجسد الأبيض كان هراء وحتى إذا استمتعتِ بوضع يديكِ بالثلاجة فهو أمر لا يحمل إلا إرثاً مكبوتاً يدل على ضحالة ما وصلتْ إليه روحكِ بفقدان المبادرة..
لماذا دماغكِ جاف إلى هذا الحد؟ أذكر أن دعوتي إلى أي شيء منكِ إنما كانت لتغيير تلافيف وتفصيلات دماغكِ وإن كان يعمل بحرارته غير المعتادة بوجودي معكِ.
يسبقني التداعي لجلب سوء الحظ لي، فقد تركت كل الظواهر النامية، بفعل التعامل معكِ، لأرتكز على نرجسيتي.. لأنه لم يكن لدي الرغبة في الكتابة إليكِ، إنما حاولت إفراغ ما في القلم من حبر حتى أتبرأ من تلك الكتابة. هكذا أتكلم مع شرودي، وربما لن أستطيع نكرانه أمامكِ.. إنما أحسست أنني متخاذل تجاه ما أكتبه بعد إعدام قراءتي لرسائلكِ.
لم يعد للتدوين تلك المتعة إذ لم يعد بالإمكان إيصاله لكِ بعد السفر.. وهذا ليس فشلاً إنما عصابٌ هادئٌ أحاول فيه السيطرة على مُقدَّراتي النفسية، وحتى الهذيان.. و يوماً ما، سأتفق معك على أنني أقل توازناً من الآخرين.. لأنني لا أرغب بالوقوف كرجل بالمزاد على حافة الرصيف،إنما أستطيع وصف هذا الحالة بدقة على أرصفة تباع عليها آلام البطولة و نياشين عشاق التوحد. انتهى العزف من التعريف، وهذه الدنيا شَّلتْ يديكِ، وليتها توقفـت عن العزف بعد سفركِ.. وربما تقولين أنني حزين.. إنما أستطيع أن أقول إنني أرغب في إنهاء العزف، بل لا أريد الشلل.. هذا ما أستطيع التفكير به.. وهو أنني أقل توازناً من الآخرين بالإضافة إلى المقدرة على تجاوزهم.
في الأماكن القديمة كنت أرى الحجارة متراصة، إنها متراصة بحكم الألفة دون إسمنت أسود يربطها مع بعضها البعض.. هي صورة بسيطة لكنها تشكل القلعة التي كانت تؤوينا. و عوامل التقادم تحمل حباً لهذا الجماد وصورة للدلالة عما لم ندركه، على الرغم من أننا نقضي فيه تراكماً ذهنياً مشوهاً، فإننا مستعدون للكره أكثر من استعدادنا للحب، وللهجر أكثر، من للتوحد.. أي أننا نرفض أكثر من أن نرغب.
لا أريد بذلك أن أحمل الفرح إليكِ، إنما أحاول تفتيت الحزن، فما زلت أتحسس برودة جسدي، وشقاوتي المرنة، وبطولتي التي لم يعثر أحد لها على تسمية.
أذكر أنني كسرت الضجر في الأيام التي جاءت بعد سفركِ، وفقدت القدرة على النوم، وتذكرت أنكِ تملكين التسطح مثل دودة الأرض، هذا ما ركب معي في تلك الأيام، وسافر بها لتنبثق أفكاري عنك. والأفكار من الشيء هي الشي نفسه مثل دودة الأرض، فهي الأرض نفسها ونحن لا نراها.
ألتقط أنفاسي على عتبة غرفتي ثم أرتدي حذائي المجسد والمليء بمسامير الخرافات التي اجتمعت من كل أطراف الدنيا حولي..
إنها خرافة عصر التدوين هذا، فقد أردت أن أبدأ الكتابة إليكِ للتعبيـر عن شوقي، رغم إصابتي بالشلل والعجز الذي داهمني.. فقد أفقدني إمكانية التدرج على سلم الحواس.. إنما سأظل أكتب إليكِ، لأن الشفهيَّ صار متلعثماً بعد سفركِ وظل الكتابي هو الأكثر جدوى.. ولأنه أكثر حرارة من غيره، ومن الطرق الموصلة إليكِ، فأردت التحدث بالتدوين، قبل أن أفقد متعتي بالاستماع إليكِ.. لأن حواسي المجتمعة والمتحفزة كمجلس للشعراء تصبح في لحظاتٍ كهذه قادرة على إدانة كل شيء.. لأننا عشنا تجاربنا بدقة وارتكزنا على الواقع، وخرجنا منه فرادى، وكانت تلك الأيام مفتوحة أمامنا نتكلم، ونتعلم وندافع ثم ننسحب، أما اليوم، فهناك اختلاف في الخطط، وبقي الهجوم هو الأسرع في اختراق الجدران المجهولة، تلك التي قامت فيما بيننا، وهذا ما جلب لنا أقداماً عارية نستمتع باستعراضها، ثم نحاول الاسترخاء، لنرى استعراضاً يربط كل الفراغات المعلقة بين أذهاننا. هناك تبادل مرسوم بيننا، تبادل مسطح.. يربط بين المسافات التي كانت تتسع رغم إرادتنا، فكان الحر والبرد.. والتقاليد العائلية التي ترثينها وتتعلقين بها.. هي في الجوهر حقيقتنا البسيطة.. لأننا عندما كنا نتفق فهذا لكي ننام، بل لنستيقظ ولنختلف.. و لنعيش أكثر..
لم تعد بي رغبة بالذهاب إلى الضفة الأخرى، لأنها مجرد مقابلة باهتة وتصالح مع من لا يمكنه الاجتياز بالعكس. أتوقف عن التنفس.. فالاختناق بدأ في العمق وتدرج إلى أعلى مستويات الإغماء، لمجرد التفكير بالركض نحو الضفة الأخرى.. نحوكِ.
خلال جلساتنا الطويلة اقتربت من حواسي نحو حواراتكِ، فجاءت الرغبة بالبوح، لترتب كل الحواس التي تجمع بيننا... ابتعدتُ عنها، كما ابتعدتِ، حتى انتهى الليل إلى الصباح، وصار الطريق إليكِ دقيق الملامح.
أتذَّكُر ابتسامتكِ والضحكة الفاقعة والترميز الذهني والزمن الطويل الذي كان يجمعنا في كل لقاء، وتأخرنا المسائي، وزياراتي المكررة إليكِ، والحقيبة السوداء هديتكِ لي، ومذاكرتكِ المملة، وخزانتكِ التي لم أستطع إصلاحها وستائر غرفتكِ، وسريركِ البارد والباهت، والوسادة التي أحضرتها لكِ من أجل رقبة بيضاء ممتدة عرفت كل الآلام.. كل هذه الأشياء تغريني، وسأظل غير قادر على ضبط إرهاقي تجاهها. ثمة أغان تتردد في أقاصي الكون، حتى بعد أن اعتدت النوم باكراً على غير عادتي.. لرؤية تلك المرأة الإغريقية وهي توقظُ أحلامي لترقصَ عارية حول سريري.
كنت أحدث نفسي كثيراً في شأن هذه المرأة، وكنت أرغب في التقاط عدة صور لها بالكاميرا التي رأيتها بين يديكِ، وحتى لالتقاط صورة لجزء من قميصكِ الأبيض، ثم أدركت أنكِ لا تحتاجين إلى التصوير، لأنكِ بلا رائحة، وهذا ما كان يجعلني أشعل لهيباً من الأحاديث المملة معكِ، لخلق ظواهر غريبة بيننا، لذلك اعتدتُ على المفاجآت المباشرة و الإدهاشات الصغيرة منكِ والتي كانت دعوة لعرض أفكاري.. ما أتاح لي البدء بأحلام لا علاقة لها مع كل من حولي، فأُصيبتْ تطلعاتي بالإغماء.
أتذكر الأيام الأخيرة. على الرغم من التعدد والتنوع في الحوارات بيننا وموقفكِ الذي كان دائماً محكوماً بسلطة الجزئيات التي حولكِ.. حينها لم يكن طبيعياً أن ترمي بكل مبادراتكِ إلى الثلاجة، لأن الاهتمام بالجزيئات قد أبعدكِ عن حريتكِ وصادر منكِ دلالاتها، لذا كان الماضي يحملكِ مع الشرود إلى ما هو مؤسس لديكِ. أتذكر الكثير من الأحاديث لأجدَ نفسي قريباً منكِ و مناهضاً أشد المناهضة للدفاع عن محاولات التمادي في ضياعكِ وراء الجزئيات الصغيرة.. لأنها بقيت تصيبنا بالانهيار، وخاصة في الأيام الأخيرة.. فكان خوفي عليكِ منكِ، ثم تبرأت من محاولة وضع اللوم على الغير فيما لحق بنا من هزائم، ولم أكن أرغب في تحولي من متحدث بارعٍ إلى مبتكر لمجموعة أنظمة مغلقة من الأحاديث.. فتوزعت بين الصمت والنطق وبقيت ضمن الفسحة التي لا يستريح الاختلاف لها.. فكانت أحاديثي معكِ للاصطفاء المتبادل.. وهو شيء ما فوق المُدْرَك وما بعد النوع، وبحكم الوراثة والعائلة لا يمكنكِ أن تدركيه. لم يعد لي الوقت الكافي للتفكير في مصيرنا وفي الصمود أمام وجه وثنية تلك الجزيئات المحيطة بحياتكِ، إنما كان الانحسار هو التوطين البديل عما تفضلين مغادرته، والذي أخذ كل أبعاده الخرافية بعيداً عن السيطرة الرمزية التي كنتِ تستخدمينها.
بقي أن أعطيكِ مفاتيح قراءاتي من غير شروط، وهو الذي يمِّيزُني بوصفه جواباً عن كل ما تريدين معرفته، إلا الجزيئات التي كانت ترافقنا وهي خائبة، وكم كنت مسيطراً على وحدتي ضمن هيمنتها علينا أمام الـ( نحن)، فلم نعد حاضرين إلا في صورة الرسائل بيننا، والتي انقطعت منذ زمن لا أعرف تاريخه. الأيام الأخيرة كانت تحمل لي روحانيةً صافيةً.. روحانية جديدة، وفيها من الرسوخ ما يكفي لإرساء ظواهر صحيحة في حاضري، وأمام المستقبل الذي أهمس به وأنا أؤمن بآفاقه الغائبة، أما حاضركِ.. فهو يتمثَّل في الظهور ضد الانحسار الذي كنتِ فيه، وبالانكسار الذي اعتدتِ عليه. ما دار بيننا من حوارات، مغايرٌ لما هو مألوف.. وكنا كالسكارى في كسر الثوابت بعد أن أخذنا قسطاً من الحياة والعيش معاً، قسطاً وافراً يكفينا "لمشوار" طويل، فأرى أنك قد تعلمتِ الحب متأخراً فهو الكائن المكتوم، وبقدر ما كان يحمل من التأمل، فهو على النقيض من ذلك.. يأتيكِ مرافقاً للإدارك، ومن خلاله تمكَّنتُ من التسلل إلى وجدانكِ الذي يشبه الثلج في امتداده بعد كل سقوط.
أود التعرف إليكِ بملامح جديدة، وسط طوفان صاخب من التقلبات التي اعتدت عليها.. لأنني ما زلت مشتاقاً إلى كل الانفعالات التي كانت تصدر منكِ ومن تساؤلاتكِ.. تلك التي ترافقني كظلي بجانب الغربة التي اختارتها الأيام لكلينـا.
هاهو الصباح قد حل، وخرجت مسرعاً من بيتي لأتشاجر مع الأرصفة الممتدة حول الحديقة المجاورة. لم أجد سوى أعقاب السجائر المرمية على الرصيف المحيط بالحديقة.. تذكرت كيف أننا لم نكن نرغب في الجلوس على الأرصفة. كنا نمشي ببطءٍ تارة، وبسرعة تارة أخرى، لنتجنب الراحة، رغماً عن التباطؤ في خطواتنا، والتي كانت تضيف لنا ركاماً من الأسئلة، فنشعل لهيباً من الأحاديث التي كانت تأتي بعد ذلك.
إنكِ بلا رائحة.. ككل الظواهر الغريبة في حياتي، لغياب الطعم والنكهة والعلاقة الخاصة، وهذا ما لم تعتاديهِ معي أبداً.
لقد أحسست بهذا في آخر مكالمة منكِ على الهاتف، وأصابتني حالة من الفرح، وحالات غريبة من الخوف، بدليل غياب تلك النكهة.. إنكِ إغريقية.. لقد استطعت تحديد ذلك.. ثم انتهت المكالمة على خير عقيم، وأصبح، بعد ذلك، لأصابعكِ طعمٌ ورائحة لن تذرفه لي الأيام من بعد.
أتذكر أواخر الأحاديث بيننا، عندما قلتِ لي: "إنك مختلف" ورغم ذلك كُنت مختلفاً معكِ.. لأنني لا أريدكِ أن تخافي.. بل أن تسترخي، كما استرخيت أنا مع حقيبتي السوداء (الأيقونة المهداة) منكِ.. علماً أنني لا أفضل حمل الحقائب، بل حملتها لأطرد النـزق بفراغ يديّ. هذه صورة قديمة لطباعي، طباعي التي أخذت مني كل الشحنات التي تكوَّنتْ بمرافقتكِ في "المشاوير" للمدينة القديمة.. والتي أضعفت إنجازات حواسي، وزاد في بلادتها إطلاق شحنات جديدة موجبة تجاه الماضي. يتجاوزني شرودي وتأملي ليؤديا بي إلى رسم "مونولوج" خاص يليقُ بكِ. أنفي وحدتي القاتلة، لأندسَّ تحت جلدكِ فتنامي وذلك كفيل لتحقيق الاكتفاء، الذي هو من ضمن حواسي في غيابكِ عني، حواسي الآن لديها مهام سرية، وما يميز هذه المهام أنها تتواشج مع أحلامي، وتوِّزعُها على حدود العالم، ثم ترسلها إلى أعماق لا نهائية.
بقي أن أتحدث عن ذلك الصباح.. لأنني استيقظت على برودة جسدي.. والآن أكتفي بالهمس الذي كنت أردده ساخراً.. وأنتِ التي هيأتِ تسجيل وتدوين لغتي معكِ بشكل علني، هذا العلن ما يزال مرتكزاً على حبة سكر.. نتزحلق عليها ليلاً، ثم تلمع نهاراً، فتلمعين أنتِ أكثر.. صرت حينها أرسم لكِ بكل الألوان، وأغني لنفسي.. لأن الأشياء صارت تحيط بي بشغف، وصرت أتنفس وأتحسس برودة جسدي، مثلماً كنت أتأمل صفاء عينيكِ المرهقتين إلى حدِّ الترف...
أتدَّرجُ عشوائياً على تراكم جسدي.. حتى لا تتراكم تلك البرودة وتتدرج من دماغي إلى قدمي.. فقد أخذت من لون عينيكِ كل الألوان الخاصة بي.. ليتسنّى لي الاحتفاظ بها لوقت آخر.. من أجل تنمية ذوقي.
لم أعد أستطيع نكران أي شيء سوى حرارة جسدي المفقودة، ونسيان تسجيل أي لقاء بيننا.. لأن لغتي كان يتم إلغاؤها بمشاهدتكِ.. والكتابة إليكِ كانت تحمل الشحنات الموجبة لتفرغني.. وكان استرخائي بعدها لأبتعدَ عن كل التصورات التي أهدتني إياها الكتابة إليكِ.
أشتم رائحة غريبة في هذا الصباح وبالقرب مني وبالبعد عنكِ.. لأنني أعيش حالة عدم الإثبات... أعود إلى بيتي... أتذكر ليلتي التي مضتْ ببطءٍ كنـزقي القديـم، وبعيداً عن مرمى إهدائها الذي ردَّني إليكِ.. وربما لأبتعدَ عن فضائي المرهون بشرودي الذي تثبت أرضاً، فكان لليباس طعم الوثنية المتبقي لدي منكِ.
ما زلت أنتظر آخر القطرات.. حتى أتابع تسجيل اسمكِ بين السطور، لأنه لا ينتظر اشتقاقه، بل يسجل كل دلالاته وإشاراته ليبقى في ذهني.
أتذكر أننا كتبنا معاً ذات ليلة، وحققنا نصف الحلم. كنتِ ترسمين موعداً لنا.. ثم بدأ الوهن بعد ذلك يدب في أوصال الحواس.. لكي أستطيع الركض نحو هتافي، ولأستيقظ نحو رؤية هاويتي، فكانت تلك السطور مهمة سرية بيننا.. تليق بكِ وحدكِ وتذكرني بتاريخ بدءِ التدوين ، والذي جلب لنا عناداً لم نستطع إيقافه حتى هذا اليوم.
أرجع إلى ابتعاد عيينكِ المهملة اللتان كانتا تخلقُ تحالفات معي بمشاهدها المعَّلقة، و تغريني بمعرفة التكامل مع لغتنا التي بدورها آلت للنفاذ في جوهرها. أعود ثانية لأتحدث عن الـ(نحن)، التي كانت تتجاوز المستحيل لإبعاد غرائبها عنا، لنتمكن من التمرد على تسمية الأشياء التي فقدناها.
أما أنتِ.. فكان الخيال لديكِ أداة ولعبة مع الزمن، كي تنفي تلك الوحدة عن نفسكِ، وتبادري بإغلاق كل مفتوح حولكِ، وهذا ما شكل حالة المواجهة بيننا.. مواجهة سحرية تحمل تداخل تفصيلات غريبة ومتمردة وتجريبيـة، ما جعل منكِ شخصيةً انعزاليةَ التجسيدِ أمام الآخرين، وتحمل ظواهر غريبة تدل على عطاء سخي من الطبيعة، وإنجاز متكسر منكِ..
بقي أن أضيف حضورنا إلى غيابنا، وأنقل قوافل الدوافع واستقرارها، و كنا نعيش التذويب، كالأحاديث التي كانت دائمة الجريان، حيث انضمام صوتكِ إلى صوتي كان ينقصه الدخول إلى أقرب عتبة إلينا.
أتذكر أننا كنا لا نستميل الفرح، ولا ننبذ الوهم، بل كنا نشكل لغةً حيةً جديدةً، وهذا ما افتقدناه مع من حولنا. في ذلك المطعم، وفي الطابق الثاني منه كنا نتحدث، و الطاولات كانت تجمع كل الغرباء.. الوحيدان الغريبـان نحن.. لأننا كنا نتحدث عما سيكون حاضراً، والحوار كان ذاتياً وأكثر أنانية من الأحاديث السابقة، فهو يحمل خصوصية بالجلسة التي لا ترتبط بأي حديث مسبق، كالأحاديث السابقة التي كانت عن هوية الأشياء والاسترسال والترميز والتفكير التجريدي بصوت عالٍ.. فكانت الأبعاد منطقية، بل تحمل استعراضاً لا أكثر. يومها أحسست أن التوهم أفقدني موضوعيتي، وبقيت من غير رائحة.. أقصدُ رائحة الحوار. لقد كان حواراً مفرطاً في الذاتية، وكنا غارقين في الذاتية، وابتعدنا عن التواصل الحسي إلى تواصل اللغة بيننا.
طبعاً لا أريد التذكير بما قمنا به من استعراض كنتِ فيه مرتاحة حتى آخر تعبيراتكِ، وأنا حاولت مرات عّدة إلغاء هذا الاستعراض لأسباب توضحت فيما بعد، ولم أستطع البوح حينها، فأذكر أنني حدثتكِ عن وضع يدي في الثلاجة كما فعلتِ أنتِ منذ وقت مضى، وقلت لكِ إنها فقدت حرارتها قبل أن أضعها، لأنني سأشتاق إليكِ في غيابكِ. تذكرت كيف التقينا آخر مرة، وأخذت منكِ أوراقي، وأنتِ لم تدخلي غرفتي العالية السقف، وكنتِ مستغرقة وحزينة وبلهاء. أخذت الأوراق لأراها مرتبة وقد دونتِ تاريخ قراءتكِ لها بترتيب دقيق.
لم نتقابل بعدها.. وكنت المرهق والخاسر في عدم الخروج معكِ إلى القلعة (وأنت أيضاً بالحالة نفسها). كم كنا نستمتع بالكتابة والقراءة والرسم معاً.. لقد كنت أقرأ كتاباتكِ بشغفٍ، وبذهن متفتح؛ كنت أراقب وجهكِ وتعبيراتك الشائقة، لأرى أنكِ مفرطة في إغراق نفسكِ بما سبق أن ورثْتِهِ، وهذا ما شدني أكثر إلى قراءتكِ، وحتى إلى وضع رسمكِ على جدران غرفتي الباهتة، والعالية السقف. أرغب في الجلوس على مقعد في الحديقة، أو المشي على أرصفتها وحيداً.. لأتذكر ملامحكِ.. لأشردَ وأبعدَ عني تلك الأخيلة. إلا أن الجزيئات التي كانت تحيطكِ، دون موعد، كانت تشغلني.. حتى أنني حاولت إشغال نفسي برسم الغيوم بقشة صغيرة التقطتها من أرض الحديقة، رافعاً يدي نحو السماء.. وتذكرت أنكِ ذات يوم طلبتِ مني أن أرسم لكِ الغيوم، يومها طلبتُ منكِ أن تشربي القهوة بعد انقطاعكِ عن تناولها سنوات، ثم راهنت على عدم رؤيتكِ ثانية إذا لم تستجيبي، كانت تلك الغيوم قد مدَّت وجهها إلى أرض الدار فطلبتِ مني رؤيتها.. وتذكرت أنني قلت لكِ إن أية امرأة لا يمكنها أن تشدني إلى رؤية الغيوم، لذلك امتلكتِ الجرأة وقتئذٍ على الاحتفاظ بعلبة سجائري معكِ، خوفاً من تبدل مذاقها البلدي و المفضل من كلينا.. وأنتِ فعلتِ ذلك حتى لا تفقدي طعم وجودنا معاً.
لم يكن ذلك اليوم عادياً، لكنه مرَّ بسلام... أثنائها، كُنت منكمشاً كحالة القنفذ التي قرأتُها في كتابكِ.. لأنني كنت أشعر بحاجة للاسترخاء كما حاجتك أنتِ.. أما عني فأذكر أنكِ كنتِ تحاولين التعويض بي ما أدى إلى الفشل معكِ فاختلط الحلم المبيت بالواقع وذلك لعدم تحقيق علاقة مباشرة ومعقولة مبدئياً بيننا.
هذه الحالة فرضتْ نفسها علينا في الأيام الأخيرة، فانحرف مزاجي إلى أبعد حدود الانحراف، وجاء كلٌ من الخوف والحيطة لأبتعدَ بهما عن التعامل معكِ، لذلك مزقت رسالتكِ الأخيرة، خوفاً عليكِ، وليس منكِ... هذه الرسالة كانت محاولة جزئية منكِ، فأنتِ تريدين تأسيس نص معقول، تتدفق فيه الكلمات والصور الشائعة، مع محاولة لتأسيس خصوصيةٍ ما، هذا ما كنت أراه.
أما مذكراتك الماضية فكانت مسطحة إلى أبعد الحدود، كالرسالة التي مزَّقتُها.. لأنها تحمل الجرأة في الربط، إنما تغُّيرٌ في المضمون بين حالة وجودي المقنفَذ و وثنية الأحداث التي مرت بكِ. أعود للحديث عن الرسالة، لأنها كانت مغايرة لما قرأته لكِ... كانت غير متزنة، تحمل مثاقفة مغايرة لما أعرفه، وغايةً تكريس وصفٍ لشخصيتكِ، وفق رغبتكِ في نقل صفاتها إلى الآخر. هي محاولة إجرائية ودفاعية عن الذات.. فكان لا بد من إجراء مفاوضة مع الصور المفتَعلة، ومقايضتها بقيمة أدبية، وهذا ما لم يصلني.. لأنني رأيت في بدايتها تفتيت الذات، وفق وجودها في موقع اجتماعي محدد، ما خلق عدم الانسجام بين الداخل والخارج، وتطور بكِ الأمر إلى (التعالي) كحل معقول لهذا التناقض الذي تعيشينه. هذا ما كان من ماهية الشخصية في رسالتكِ، أنها تحمل القدرة على البراءة واستجلاب الشعور الطبيعي الناضج.
والتجريد الذهني الذي تحدثتِ عنه، ما هو إلا ترفُّع منكِ مقابل البديل المفترض، فكان خطاً غير مفهوم في سياق الانتقال من الوهم الجاف والأفكار المشكلة إلى ما بعد تعارفنا ونضوج ذهنكِ، فجاءت الرسالة بمعطيات هي ضد ذاتكِ، وهذا كان مفتعلاً، وأتيتِ بالرموز الغامضة بدافع استدعاء رؤية الآخرين واقعياً، أولئك المناهضين بشدة لتلك الذات.. ذاتكِ.
لقد كانت الرغبة عميقة لديكِ في (استدعاء فاشل للماضي) وكانت اللغة في الرسالة مقلوبة، فهي تفسر تناقض الرغبة مع الواقع، لذا فالكلام المبطن خير دليل على التشويش.. تشويش نشأ معكِ من مقاومة الذات.. وكان من المفترض أن تحمل الرسالة تواطؤاً متفقاً عليه بيننا، ليتسع المعنى عندك، ولهذا تساءلتُ كثيراً بعد قراءتي للرسالة.. ترى متى نكون كما نريد؟!.
و هل الخوف هو من صادر كل اتفاق؟
كُنت خائفاً عليكِ، وأردت أن أنبش مفكرتي، حتى أعلن لكِ أن السفر بكل مغرياته لم يهبني في غيابكِ إلا الشرود.. ولربما كان شرودي معكِ هو الكائن الوحيد الذي بيننا. لذا كنت أحاول دائماً التشبث به، لكنني صرت أخاف منه.
هي حريتكِ التي جعلتني أتنهد، فقد كنا نسير طوعاً نحو الانفصال. بعد ذلك بدأت أصبح موضوعاً.. أو حتى موضوعات تدهشك، و أحسست بالخسارة وقبلتها، ليبقى لدي ضمان ذكرياتي.. ومازلت أفتقد الشجاعة الكافية لوضع تخيل لنا لآمال العقل..
ذكرياتي تداهمني، ذكريات لا خير فيها.. لأن الصورة التي أحتفظ بها لا توازي غير الخزانة التي لم أستطع إصلاحها لكِ. لقد جاء الخريف سريعاً هذا العام، وهذه الليلة أكثر صفاء مما قبلها، فقد سيطر الهدوء عليها وأحسست أننا كنا نعيش تجربةٍ جديدة من الود والمؤانسة، ساعد ذلك على تكوين نظرة صحيحة ورؤية قابلة للشرود.. ولأنك كنتِ تخفين رغباتكِ النشيطة أحياناً، وعلى العكس من ذلك كنتِ تحاولين العيش معي بملء نشاطكِ.. فكان التدخين يجذبك فقط للاغتراب عن الأهل، وأنتِ لا تشعرين بالحرج من ذلك.
أتذكر أنك لم تخرجي عن التطبع، وأنه محاولة إرادية لإقامة شراكة بيننا، بالانفتاح المفاجئ على العالم، والانطواء المعتاد على الذات، فنشأت حالة الولع بيننا بصورة لا إرادية، لذلك لم تنجم أي مشاجرات فيما بيننا، كما لم نحمل حرماناً تجاه عواطفنا. بل ثنائية متطابقة مع أي موقف أو رغبة أو حتى وفاق هادئ وطموح، وحميمية خاصة وغير ظاهرة للملأ، فالذي بيننا لا يحمل الود فقط، بل حاجات ورغبات أخرى، كان من المفترض أن نخلق من هذه الإنجازات وضعاً مسيطِراً، كالوصايا الإلهية، لذا كانت "مشاويرنا" أكثر وداً وأكثر صفاء، كنُّا نرى أشكالاً وألواناً في الطيف الذي يحيط بنا، وكان علينا أن نكسب ثباتاً للفكرة، نصوب إليها ولا نتركها هبوطاً أو صعوداً، فينقطع الحلم، وهذا.. لم نستطع إيصاله وتثبيته بالإرادة بيننا.
إنكِ تلاحظين أنه لم يعد بإمكاننا ترك أي أثر لنا بعد أي لقاء، وحتى بعد أن نركض متكاتفين مع أعمدة الكهرباء المنتشرة من أول مدخل المدينة حتى آخر عمود، مروراً بالأماكن المعتمة، كأنه عمرنا.. نستعجله بين بقع صغيرة من الضوء وظلماتٍ كثيفة.
هي الأشكال نفسها التي لا يمكن لأحد تجاوزها بالنظر إلى الأفق.. فقط دهاليز الحكايات الموجهة إلينا والمنتشرة على وجوه الجميع حين نتقابل ونتبادل أحاديثنا الطويلة، ونتمكن من الرؤية، ومن ثم الإصغاء لحركة تناثر الأشكال حولنا، بما تتضمنه من شخوص تبحث عن أشيائها الواعية، فكانت السخرية تلازمنا دائماً، كمساحات تبيَضُّ و تسوَدُّ حتى آخر رمق. تذكرت عندما قلت لكِ إن هذا يشبه نقرة حذاء جديد على أرض صلبة، وأنت كنتِ تحدثينني عن التماثل، حينها حدثتك عن أوردة الجسد المتدفقة..
هذا التلاعب بيننا بأشكال الجسد وبملامحه يصل بنا إلى فردوس من الموسيقى، تهبط بالنبرات وتتزاحم فوق الطاولة التي تؤوينا.
هي استجابات لخلق ثبات ما..
وأي ثبات هذا الذي يحقق لنا رؤية واضحة؟! رؤية تغنينا عن كل فاكهة الأرض، ما عدا الرمان، لأنه لا يحوي الطعم فقط، بل كل الألوان المتاحة للرسم، فهو يعطي تدرجاً لألوان قوس قزح.
إننا نعيش قبل أن ندفن كل الأحاسيس، أحاسيس ناطقة أو مكتوبة، هكذا تعودنا، كنا نتأمل عن كثب صورتنا المفتتة، لتُظهر قدراتنا ورغباتنا بوضوح، لكن ذلك يتطلب سنوات أو ربما دهور.. فلا بد أن نفترض الشيء كفكرة مقابلة، كأن يظهر الحلم ثم يغدر بنا في كل لحظة عمر، ما كان بإمكاني نفَي الحقائق الجديدة من حياتنا، لأنني انعتقتُ من الأمل المعقود إلى الانفلات الفردي.
والمشيئة هي أن يتجاوز كل منا ما لدى الآخر.. من صياغة لحلم لا معقول. لأننا ننتقل من الحقيقة إلى الانفلات منها.. فكانت النتائج غير مضمونة.
في القلعة، وقبل أن ننـزل إلى مستوى سطح البحر، كنا نتحدث عن روايتي. طبعاً، بعد قراءتكِ لها، لم تتمكني من ذكر أي سؤال سوى أنكِ تحدثتِ عنها من أجلي، فقد رأيتِ فيها سلسلة من الأحداث تأخذ طريقها إلى قاعدة كسر النظام المعروف واللامقبول وسط واقعية يومية لا بد منها.
كنتِ قد اتَّبعتِ هذه القاعدة في كسر النظام المعروف في روايتكِ التي بدأتِها قبل السفر، أما روايتي فلم تعزل عن بعضها، ولم أجد تناقضاً لقوانين الطبيعة فيها، وذلك بالاستناد إلى تجاربنا التي نعرفها ونحاول تجميع ما فيها، لنضع أنفسنا في المشكلة مع أبطال الرواية.
كذلك لم تحمل روايتكِ إلا الأحداث الدقيقة التي يدفعها السرد إلى الحل الماورائي، لتستلب القارئ وتدفعه للاعتقاد المطلق والتعامل به وليس إلى التردد..والتردد عند بطل روايتكِ كان يتوافق مع إرادة تناقضه و قوانين الواقع.. وأقصد بالمطلق هو القدر، وبالتردد.. هو الحل الإرادي.
روايتكِ.. كانت نصاً شعرياً يطالبني بالتحليق دون انحرافٍ عن الكلمات، ومنذ بدايتها لم أكن أسمح لنفسي بالتسرع في تفسير أحداثكِ الغيبية.. ولأنني على العكس من ذلك، لم أحدد الكلمات كتنسيق لصور لا متناهية، فكُنت في قراءتي لروايتكِ مرغماً على النظر إلى الأحداث كما لو أنني مفَّوض لقراءتها فقط.. ولفهم الأحداث فوق الطبيعية، رغم قراءتها عدة مرات إلا أنني أقف في حالة توحد أمامها، لأنها كانت تحمل إدخال كائنات غير مشخصّة في صور أدبية ملائمة تماماً، وتبشر بصور تحمل بعداً مبطناً، وحالة إرباك واضحة، وانفكاك هذه الارتباكات ارتبط بالحياة، بقلق القرار عندكِ.
لم يكن الغموض هو الشخصية إنما كان رأياً مدرِكاً لاستعراض إدراككِ، لقد كُنت سعيداً بما اكتسبتُه من قناعات، لأنكِ مازلتِ ترسمين أفقاً مغايراً لي..
إننا نحيا تحولاً ندخل فيه ونتجنب الآخرين، أولئك الذين فتحوا أعينهم وأفواههم اتجاهه واتجاهنا، وهذا ما أردت أن أقوله لكِ عن روايتكِ قبل أن تسافري.
إنني ما زلت أؤكد أن رسائلي إليكِ هي حالة تواطؤ.. مع شيء من الشوق. ما كان للكلمات أن تفيد في الثأر لذلك، وما كان للغة أن تحمل هذا الإيحاء، لأنني لا أريد الإفراط في الذاتية، إنما أريد أن أحدثكِ عما كُنت سأحدثكِ عنه من قبل.. لأنكِ كنتِ في تلك الأيام متعبة في الشكل والجوهر، ويداكِ كانتا مائلتينْ إلى لون الحيرة، وهو لونكِ الدائم.
أنتِ بلا شك تحملينَ كل العطور التي أحب.. تحملين خواصاً تراجيديةً وخواصاً يجب لها أن تضمن مبدأ استمرارنا.. خواصاً.. ملائمة ومفهومة.. أنتِ مفهومة حتماً، على الأقل بالنسبة لي.. ورغم ذلك كنت أرى كلمات تجوب السماء، أفكاراً وراء الكلام، ترقد في الحواس، نزيحها كلما التقينا.. وتبعدنا كلما افترقنا، هذا هو التواطؤ الذي إن وجد فأنه سيأخذ تأثيره الكامل لنقض معاهدتنا، هذا هو المشهد الذي يجمع صوره بيد ثابتة.. والحروف الوافدة لكلماتنا اليتيمة كانت مختلفة، مصنوعة من مادة منتظمة.. وكل ما انتظم كان أكثر قابلية للتفتت.
لم نكن قادرين على إيجاد القدرة الخارقة للتمييز بين الرؤية والغرض، أنتِ تعيشين توقاً للمعرفة، موجهاً من أجل أن تلفظي نفسكِ بعيداً عن الاستجابة المعقولة، لتؤلفي تلك المخيلة والرغبة في خلق لقاءات غير طبيعية، لخلق ترميز إرادي للخوارق.
لقد ضيَّق زماننا دائرة اللغة بحيث ألغى خرافتها، خرافة كان يجب أن نتركها، لكنكِ أعدتِ نسخها وتزييفها وأعدتِ إنتاج تفاهتها.. فكنا متعارضين لرؤية كآبة الليل.. وتفجر كل شيء حولنا.. وأصبح الليل غير قابل للانتظام.. وإن كنا لا نعلم من نحن، فنحن غير الذين كانوا فيما مضى.
ويبدو أن مهمة الحديث عن اللغة هي من المهمات الأصلية، التي توصف من أجل العلاقة الحميمة بيننا، لأنها تحمل الصفة الملازمة لحصيلة ما وصلنا إليه، ذلك الذي لم يكن ليرضينا، لذلك تحطَّمتْ لعبتُنا، حين أردنا أن نكون غير الذي يعرفه الجميع، لم نفلح في ذلك وكسرنا حلمنا، حين فشلنا بالعودة إلى المكان الذي ولدنا فيه متميزين.. واكتفت تجربتنا بالصمت، لأن إرادتنا في إجراء التحول كانت أقل قوة مما ادَّعيْنا، وانتقلنا.. من الشفهي إلى التدوين.. من أقل الكآبة إلى أكثر الكتابة.. ولأنني لم و لن أسمحَ بضبط التحولات إلاَّ كي تسير وفق ما ينبغي لها.. أقصدُ أن تختار مسيرها.
ذات يومٍ كنتِ ترغبين بقراءة فألنا في ورق "الشدّة". خلطت الأوراق ببعضها.. أضمرتِ ورقة.. طال بعدها الانتظار.. ثم تحول إلى تمايل ممضّ انتهى بارتجافٍ و بكاءٍ مفتعل، انتهى بك أمام المرآة تتأملين قزحيتين. بعدها، طويتِ الصفحات التي حاولتِ الكتابة فيها لعل رواية تنمو معك.
كنتِ تهربين.. تهربين من أية إنارة في الغرفة بالنسبة إليكِ، يومها كنا نتهيأ للخروج، وكان تأخري يزعجكِ، والانتظار كان يذكركِ بالتدخين، ثم أحضر وآخذكِ إلى المكان الذي كان يؤوينا.. أنا أحدد طلبي حسب انطباعي عنكِ.. وأنتِ لا تشربين العصير حتى لا يصيبكِ أرق قبل النوم.. وتهدينني ضحكات فاقعة.. واستغراباً منكِ بأنني أحبُبت تلك الضحكات.
لا أظن أنكِ كنتِ تفتعلين.. إنما وجود الورق الأصفر عندكِ، والذي أهديتكِ إياه كان دعوة مفتوحة لكِ ولكل الأشياء التي كانت تشاركنا، وللكتابة أيضاً، حتى تخرجي بعضاً مما تودين إخراجه من دماغكِ اليابس.
بعد فترة من الزمن.. ستكون الرؤية واضحة لكِ، لأن الصيف سيأتي - وأنتِ طال غيابكِ - سيأتي الصيف.. وإن طال غيابه.. والمكوث في الضوء الكثيف يدفعنا إلى إغلاقٍ العيون.. ربما تتضح الرؤية أمامنا، وأمام حديثكِ لي عن الريح.. والأوراق الصفراء المكتوب عليها بحبري وقلمي..
أنتِ التي جربتِ طواعية القلم (الواترمان) وتم التوافق مع دماغكِ الناشف، وأنتِ مازلتِ تخافين من سرنا وتحاولين البدء، بدلاً من حبر وورق أصفر كانا هدية مني دليل غيابي وبديلاً موضوعياً عن الياسمين الأصفر العديم الرائحة.
ما زلتِ تشتهين الكتابة إليّ.. وهذا ما كان يصيبكِ فتجدين نفسكِ منساقةٌ دونما تردد للكتابة.. لأتحدث معكِ.. وعندها تنسحبين للسرير، كأنما هناك حديث بيننا ثم ينقطُع فجأة.. فتصِلينه بالكتابة قبل أن تنامي.. ما كنتِ تنامين، فيسقط قلبكِ ببــطءٍ وأنتِ تفكرين بي..
إنني ما زلت أفكر بمعالجتكِ براحتي.. وبعيون معصوبة.. وأذكر أن كتابتكِ إليّ كانت حلوة.. طبعاً هذا ما عرفته وعرفت أنه يفرحكِ.. إلا أنني بدأت أفك عيوني المعصوبة، لأستمتع برؤياكِ من جديد.. بعد رحيل هذا العام.
هذا هو العام الخامس من بدء التدوين.. لقد جئت بكل ما هو رتيب لحياتي، لم أحاول أن أفقد الحيوية، أما النرجسية، فلا أعارض وصفي بها، لأنني كنت كذلك أحياناً؛ رغم ذلك، سأظل أتذكر كثيراً كيف كنت أحبك.. لأن جمال الأشياء في نقصانها وجمال الكلمات في كمالها واكتمالي في الهجر.