انقلابات جزر القمر
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
[تحرير] دولة الانقلابات
جزر القمر التي لا تزيد مساحتها على 2500 كم2، فضلاً عن ضآلة عدد سكانها -600 ألف نسمة -، إضافة إلى ضآلة إمكانيات الدولة - خاصة في المجال التسليحي -؛ فقد كان الانقلاب سمة أساسية مميزة لها. وبالرغم من حداثة تاريخها السياسي - استقلت الجزر عن فرنسا عام 1975م، وتشكَّلت من الجزر الثلاث، وهي القمر الكبرى التي تتبع العاصمة موروني، في حين رفضت جزيرة مايوت الاستقلال عن فرنسا، وفضلت استمرار تبعيتها لها - فقد شهدت البلاد خلال الـ25 سنة الماضية قرابة عشرين انقلابًا، بعضها داخل إحدى هذه الجزر - كما حدث مؤخرًا في أنجوان - والبعض الآخر ضد النظام السياسي في جزيرة القمر الكبرى.
ومن الأمور الجديرة بالرصد والتي تكشف عن هشاشة النظام السياسي في الجزيرة أن بعض هذه الانقلابات كان يقوم بها شخص أجنبي هو المرتزق "بوب دينار"، الذي كان يعمل ضمن قوات الجيش الفرنسي قبل استقلال الجزيرة، وكانت تستعمله فرنسا عند اللزوم، فقام دينار بخمسة انقلابات نجح في إزاحة القائمين على الحكم في ثلاثة منها:
الأول: ضد أول رئيس للبلاد وهو الراحل أحمد عبد الله، حيث أطاح به بعد تولِّيه الحكم بشهر واحد.
الثاني: عام 1978م ضد الرئيس عبد الله صالح من جزيرة أنجوان الذي قام بتعيين دونار قائدًا لحرسه الشخصي، لكنه انقلب عليه.
الثالث: ضد أحمد عبد الله - الذي عاد للحكم مرة أخرى عام 1984م -، وأسفر هذا الانقلاب الذي تم في نوفمبر عام 89 عن قتل أحمد عبد الله. وسبب الانقلاب توجَّه عبد الله تجاه العراق واعتراض فرنسا على ذلك.
الرابع: بعد تولِّي سعيد محمد جوهر الحكم عام 1989م، لكن فرنسا تدخلت وتمكنت من الاتفاق مع دونار على مغادرة البلاد إلى باريس.
الخامس: تم عام 1995م بإيعاز من فرنسا بعدما أعلن جوهر عن رغبته في التوجه صوب إيران، لكن مرة أخرى تمكَّنت فرنسا من إنهاء تمرده.
وتكشف كثرة عملية الانقلابات الخارجية والداخلية عن مدى المشكلات التي تواجهها هذه الدولة منذ حصولها على الاستقلال، بسبب فشل النخبة السياسية في بلورة مشروع تنموي شامل يحقق مستوى معقولاً ومتوازنًا من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفشلها أيضًا في إرساء دعائم إطار ديمقراطي حقيقي يدعم الاستقرار السياسي، ويتيح الفرصة لمختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية للمساهمة بفاعلية في التنمية الوطنية، ومن ثَمَّ أدى الأمر في النهاية إلى فشل مشروع بناء الدولة سياسيًّا واقتصاديًّا، بل والمطالبة بعودة الاستعمار من جديد (يبلغ متوسط دخل الفرد في جزيرة مايوت التابعة لفرنسا 1000 دولار، في حين لا يزيد عن 300 دولار في باقي الجزر خاصة أنجوان وموهيلي).
[تحرير] الدور الفرنسي
إذا كان تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية سببًا في كثرة الانقلابات التي شهدتها الجزيرة، فإن مثل هذا العدد من الانقلابات لم يكن ليتم دون وجود العامل الخارجي، ونقصد به فرنسا تحديدًا.
ففرنسا ترغب في استمرار تبعية جزر القمر لها دون تكلفة، وهي السياسة الجديدة التي رفعتها الحكومة الاشتراكية، وهو المبدأ نفسه الذي يسير عليه الرئيس جاك شيراك الآن؛ ولذا لا غرابة في أن نجد فرنسا تساعد على إشعال الانقلابات وحركات التمرد، ثم تقوم - ليس بقمعها - بل بإقناع المتمردين التابعين لها كدونار بإنهاء الانقلاب، ويتم ترحيله إلى باريس وإجراء محكمة شكلية هناك.
ونلاحظ كيف أن سبب هذه الانقلابات يرجع إلى توجهات معينة للنظام القمري (الرغبة في التوجَّه صوب العراق وإيران، كما حدث مع الرئيس أحمد عبد الله 1989م، وسعيد جوهر عام 1995م)، بل إن التوجُّه الإسلامي للرئيس المنتخب "تقي الدين عبد الكريم" الذي وصل للحكم عام 1996م، والذي قام بتعديل الدستور والنص إلى أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع دفع فرنسا إلى دعم حركة التمرد في كل من جزيرتي أنجوان وموهيلي، وبالرغم من تصريحها الرسمي أنها تعارض عمليتي الاستفتاء اللتين تمتا في الجزيرتين في أكتوبر 1997م، وأسفرتا عن تأييد الأغلبية لمبدأ الانفصال، فإنها لم تتدخل لقمع حركتي التمرد، بل استمرَّ الحال هكذا حتى ضعف موقف النظام الذي فشل في القضاء على حركتي التمرد عسكريًّا بسبب ضآلة قدرته التسليحية (يبلغ عدد أفراد القوات المسلحة ألف جندي وضابط فقط)!، وأدى الأمر في النهاية إلى انقلاب الرئيس الحالي "عثمان غزالي" على الرئيس تقي في مايو 2000م، وبعدها مباشرة لعبت فرنسا دورًا مهمًّا في تحقيق المصالحة.
وتهدف فرنسا من سياستها هذه إلى تحقيق أمرين أساسيين:
1- الحفاظ على قواعدها العسكرية في جزر القمر التي تُعَدّ موقعًا إستراتيجيًّا هامًا على طريق التجارة بين دول آسيا وجنوب القارة الإفريقية، كما تشكِّل القاعدة العسكرية الفرنسية الثانية في شرق القارة بعد جيبوتي التي توجد بها أكبر قواعد عسكرية فرنسية على مستوى القارة ككل.
2- الحيلولة دون وجود أية منافسة أجنبية في هذا الموقع الحيوي؛ ولذا يُرْجع بعض المحلِّلين تشجيع فرنسا (الضمني) لحركتي التمرد في أنجوان وموهيلي إلى التوجهات الخارجية للرئيس "تقي عبد الكريم" تجاه الولايات المتحدة، التي أسفرت عن توقيع الشركات الأمريكية عقود استثمار في المشروعات السياحية في الجزيرة تبلغ قيمتها 600 مليون دولار (هذا المبلغ يعادل ثلاثة أمثال الناتج القومي للبلاد!!)؛ لذا لا غرابة في أن تقوم باريس بالتلويح لأهالي أنجوان وموهيلي بإمكانية عودتهم إليها مرة أخرى، بل قامت أثناء وقوع حركتي التمرد بإرسال مجلة سياسية من جزيرة "لاريبتون" التابعة لها في المحيط الهندي لتوزيعها بدون مقابل على الأهالي، وكان يتصدر صفحاتها الحديث عن الوضع الاقتصادي المتردي لهاتين الجزيرتين في عهد الرئيس تقي عبد الكريم.
[تحرير] تطورات الأزمة ومستقبلها
رفعت جزيرتا أنجوان وموهيلي في أغسطس 1997م دعاوى انفصالية، ولم تكتفِ الجزيرتان بالمطالبة بالانفصال، وإنما رفعتا شعار "فرنسا للجميع"، حيث طالبتا بالعودة إلى الاستعمار الفرنسي على غرار جزيرة مايوت، وهي الأزمة التي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى الآن، ولم يتم التوصل إلى المصالحة الوطنية الشاملة بين هاتين الجزيرتين وجزيرة القمر الأم إلا في أغسطس 2000م، وتم تدعيمه في فبراير 2001م في إطار ما عرف باسم "اتفاق فومبوني" (عاصمة جزيرة موهيلي)، إلا أن تطورات الأوضاع في أنجوان قد ترجئ عملية المصالحة إلى حين.
وعلى الرغم من استمرار أزمة جزيرتي أنجوان وموهيلي قرابة عامين ونصف العام، فإن فرنسا لم تتدخل لمساعدة النظام على مواجهة التمرد بمجرد حدوثه، وهو ما ساهم في الإطاحة بالرئيس تقي عبد الكريم، وتولِّي عثمان غزالي بدلاً منه في مايو 2000م، وبعدها بدأت الدبلوماسية الفرنسية في التحرك النشط، وقد شاركها في هذا الدور منظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية، إلى أن تم التوصل لاتفاق بين الجانبين في 17 فبراير الحالي عرف باسم اتفاق فومبولي، وكان من أهم بنوده:
1- الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة الجديدة.
2- دولة جزر القمر دولة فيدرالية، كما يتم إعطاء كل جزيرة سلطة ذاتية (حكمًا ذاتيًّا) بالنسبة للأوضاع الداخلية، وتظل قضايا الدفاع والتمثيل الخارجي تابعة للمركز في موروني، على أن يتم النص على ذلك في الدستور الجديد (مطلب جزيرة أنجوان).
3- تشكيل لجنة ثلاثية للمصالحة من الجزر الثلاث، ومهمتها صياغة الدستور الجديد للبلاد، مع تحقيق مبدأ "اللامركزية في الحكم"، وذلك خلال فترة انتقالية مدتها أربعة أشهر.
4- تشكيل حكومة ائتلافية بعد التصويت على الدستور تشارك فيها أحزاب المعارضة والأحزاب الموالية للحكومة والمتمردين، ومدتها ستة أشهر، ثم يبدأ بعدها إجراء انتخابات عامة برلمانية ورئاسية، ولن يقوم الرئيس عثمان غزالي بترشيح نفسه فيها.
وبالرغم من أن هذا الاتفاق يتميز بوجود مدى زمني معين للخروج من الحالة الانتقالية التي تمر بها البلاد، فإن منظمة الوحدة الإفريقية كانت تتحفظ من البداية على البند الخاص بتوسيع سلطات الحكم الذاتي خوفًا من إمكانية تنامي النزعة الانفصالية من جديد.
وكان يفترض - وفق هذا الاتفاق - أن يتم التوصل إلى إقرار الدستور الجديد في يونيو الماضي، إلا أن الخلاف حول بعض القضايا المهمة به - والتي يدور معظمها حول علاقة المركز بالأطراف - ساهم في تأخير إتمام صياغته، وكان من المفارقات الحزينة أن اللجنة الثلاثية كانت منعقدة وقت وقوع الانقلاب الأخير، ومع أن القادة الانفصاليين أعلنوا في بداية الانقلاب أنهم يرغبون في العودة إلى التوحُّد من جديد مع جزيرة القمر الكبرى، إلا أن ما قام به الانقلابيون من تشكيل لجنة سياسية عسكرية، وترحيل سعيد عبيد للخارج، يعني أن هذا الانقلاب قد يستمر لفترة على الأقل، ومن ثَمَّ تعطل عمل اللجنة الثلاثية، وما يترتب على ذلك من تأخر صياغة الدستور، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وهكذا نجد أنفسنا أمام حلقة مفرغة من الانقلاب والانقلاب المضاد، مرجعها الأساسي ضعف الموارد الاقتصادية من ناحية، وهشاشة الهياكل السياسية من ناحية ثانية، وضعف القوة التسليحية من ناحية ثالثة، واستمرار النفوذ الخارجي من ناحية رابعة.
ولعلَّ هذا العمل الأخير يدفعنا إلى التساؤل عن دور الدول العربية والإسلامية في دعم هذه الدولة التي ناضلت من أجل انضمامها للجامعة العربية عام 1993م ضد المعارضة الفرنسية، وانضمت إلى منظمة المؤتمر الإسلامي منذ عام 1976م. صحيح أن القمة العربية الأخيرة في الأردن قرَّرت تخصيص مليوني دولار للجزيرة، إلا أن ما تحتاج إليه هذه الدولة أكبر بكثير، ويكفي أن فرنسا كانت تقدم لها معونة سنوية تقدر بـ 6 مليون دولار سنويًّا، لكنها قررت وقفها منذ عام 1994م؛ فهل تتحرك الدول العربية والإسلامية للمساهمة في نهضة هذه الدولة اقتصاديًّا؟! وهو الأمر الذي سيكون له - إن تحقق - انعكاساته السياسية المتمثلة في تحقيق قدر معقول من الاستقرار والاستقلالية والحفاظ على هوية البلاد وتوجهها الخارجي.