رومبيك
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
رومبيك عاصمة إقليم جنوب السودان.
انتهت الحرب وطويت صفحة طويلة من الجراحات بين شمال السودان (ممثلا في الحكومة) وجنوبه (ممثلا بالحركة الشعبية)، وبدأ الطرفان صفحة جديدة بتوقيع اتفاق السلام في التاسع من يناير الماضي وانبثق عن هذا الاتفاق لجنة لتعديل الدستور. ولضمان تحقيق المساواة بين الطرفين كان على أعضاء المفوضية أن ينتقلوا من الخرطوم إلى مدينة رومبيك (مقر الحركة الشعبية لتحرير السودان). تحدد ميعاد السفر يوم 27 مايو الماضي، وقد سبق وفد المفوضية وفد إعلامي سوداني، وكانت "إسلام أون لاين.نت" أحد أعضاء هذا الوفد وربما كانت هي المرة الأولى التي تعلن فيها إذاعة مطار الخرطوم عن قيام رحلة متجهة إلى رومبيك.
و"رومبيك" مدينة ذات طبيعة ساحرة فالأشجار الكثيفة تملأ كل مكان، وإذا تساقطت عليها الأمطار ملأت الجو عبيرا طيبا، وتكون هذه الرائحة مبيدًا طبيعيًّا للحشرات الكثيرة هناك.. السماء بلون لبني صافٍ، والخضرة تكسو كل مكان.. كيف غاب جمال هذا المكان الخلاب الرائع عن أهل الشمال؟!.
في شوارع المدينة من الطبيعي أن ترى الجنود يتدربون بأسلحتهم، الأغاني الأوغندية والكينية تملأ أرجاء المدينة، والمسجد الوحيد بالمدينة مدمر منذ الأربعينيات من القرن الماضي وبجواره خمارة (أحد الأشياء المهمة في حياة الناس هناك)، والدراجات التي هي وسيلة المواصلات الوحيدة بجانب عربات المنظمات.
وعند نزولنا من الطائرة وجدنا جمعا كبيرا من أهالي المدينة في استقبالنا بالمطار الذي لاحظنا تواضعه الشديد؛ فهو عبارة عن ممر ترابي تحيط به غابة كثيفة من الأشجار الضخمة. التف الناس من حولنا فالكل يريد أن يصافحنا بشوق، وقرأت في أعينهم: "أخيرًا اعترف الشمال بنا".
فهرست |
[تحرير] حياة يسودها الفقر
توجهنا بعد ذلك بعربات معظمها تابعة لمنظمة الأمم المتحدة إلى فندق يسمى "باندا" (يعني بلغة قبيلة الدينكا التي تعيش في المكان "بيتنا") لنجد غرفا للنوم عبارة عن مبنى من الخوص يسمى "قوطية" مدبب من فوق على شكل قمة هرم حتى تتدحرج من عليه مياه الأمطار الغزيرة، لم يكن بها سوى 3 عنقاريب (سرير) ومعظم الحشرات التي أعرفها، والتي لم أعرفها، وكل حشرة بحجم أكبر من الذي أعرفه فالناموس مثلا كالجراد بالإضافة إلى الفئران الكبيرة والسحالي، وشيء يسمى "الضب" كبير الحجم، منظره مخيف.
وبجوار هذه القوطية نجد الحمامات وهي عبارة عن مجموعة من الحفر داخل الأرض، أما مكان الاستحمام فهو عبارة عن غرفة صغيرة ليس لها سقف وجدرانها أقصر من طول أي شخص عادي، وعليك أن تأتي بالمياه من إناء ضخم يوجد بجوار الحمام والموضوع على نار موقدة حتى تقتل أي حشرات بداخله، فاكتشفت من اللحظة الأولى مدى الفقر والمعاناة التي يعيشها هؤلاء والتي لا ترقى لحياة آدمي.
وعندما خرجت في جولة بشوارع المدينة مع أحد الأهالي ليكون دليلا لي لم أجد في السوق سوى سلع من دول الجوار السوداني، كما تنحصر المعاملات على العملة الكينية والأوغندية والجنيه السوداني القديم.
بعدها فاجأتنا الأمطار الغزيرة التي استمرت طوال الليل وأصوات رعد كثيفة، وميض برق قوي، ومع ذلك فهذه القوطية لم يصبها أي شيء، ولم تنزل علينا نقطة مطر واحدة، وفي صباح اليوم التالي وجدت الأرض جافة تمامًا، وكأنه لم يكن هناك أي أمطار بالأمس.
[تحرير] من طقوس الحياة الاجتماعية
حكت لي "أشول" إحدى عاملات الفندق عن عادات الزواج لديهم وعن المهر الذي يتراوح ما بين 30 إلى 150 بقرة، فكلما كانت العروس فاتحة اللون وطويلة وشعرها طويل ولها فلجة في أسنانها.. كان مهرها غاليا، ويمكن للرجل أن يتزوج 10 نساء وأكثر، وعند الزواج يحبس العروسان حتى تحمل العروس وغير ذلك، ولا يسمح لهما بالخروج، ولا يمكن أن يتزوجن من ابن العم أو ابن الخالة فهذا محرم.
كما حدثتني عن صعوبة زواج الشمالي بالجنوبية، وروت لي قصة طريفة عن رجل شمالي تزوج جنوبية وأنجب منها أطفالا وعاش معها بالخرطوم، وفى يوم تركها وخرج، وإذا بإحدى الشماليات ترى الجنوبية ومعها أطفالها، وتصر على أنها خاطفة وليست أمهم، وذهبت بها إلى الشرطة، ولم يخرجوا إلا بعد مجيء الزوج الذي أكد أنها زوجته وسط دهشة الحاضرين.
كما حدثتني أيضاً عن عادات الموت وقالت: "عند وفاة أي شخص خاصة في القرى يقوم أهالي المنزل بدفنه في المنزل، ولا يخشى الناس ذلك ولا بد أيضاً أن يذبح ثور لكل ميت".
زرت مراكز الخدمات الموجودة بالمنطقة، فبدأت بالمستشفى وقابلت مديره "ناما بور دينك" الذي قال: "إن المستشفى بني عام 1920 بواسطة البريطانيين، كما أن الحرب قد دمرت معظم الأقسام التي كانت موجودة. يستقبل المستشفى يوميًّا ما بين 100 و140 حالة من الكبار، وما بين 80 إلى 100 حالة من الأطفال، ومن 20 إلى 40 حالة من النساء الحوامل، ولا يستطيع المستشفى أن يغطي كل هذه الاحتياجات".
وأضاف: "يضم كل عنبر 22 سريرا، ولا يوجد لدينا قسم خاص بالأشعة، وكذلك لا توجد مراكز صحية بالمدينة مما يسبب ازدحاما كبيرا في المبنى، وخاصة في فصل الخريف الذي يصحبه أمراض كثيرة. أما العلاج والكشف فهو بالمجان، ويرجع ذلك الفضل إلى المنظمات الألمانية والإيطالية التي تمدهم بالأطباء والأدوية وللأسف لا توجد منظمات عربية مشاركة".
توجهت أيضاً لزيارة مدرسة رومبيك الثانوية وهي المدرسة الثانوية الوحيدة بولاية بحر الغزال، وهناك قابلت مديرها "دوت ماكوى" الذي انضم إلى الحركة عام 1996، وقال لي: "لدينا 750 طالبا و23 طالبة بالمدرسة، و36 مدرسا ويتراوح عدد الطلبة في الفصل الواحد من 60 إلى 80 طالبا. ونقتبس مناهجنا من شرق إفريقيا كينيا وأوغندا وتنزانيا كما ندرس تاريخ السودان.
وأضاف: "تعد مصاريف المدرسة باهظة بالنسبة لأهالي المدينة الفقراء؛ حيث يدفع كل طالب 55 دولارا سنويا؛ لذا يرى أهل المدينة أهمية زواج البنات مبكرًا لإعطاء فرصة لتعليم الولد".
وعند مغادرتي هذا المكان رأيت سراديب من زمن الحرب تحت مباني المدرسة التي كانت مقرًا عسكريا وقتها.
وفي قسم الشرطة حاولت أن أتعرف على نوعية الجرائم السائدة في هذا المكان، وقابلت مدير شرطة البحيرات "إينوك مانوان" وقال: "لدينا جرائم مختلفة مثل مشاكل المياه، وسرقة البقر، والزنا، والقتل، وخطف البنات، وعندنا ظاهرة الأخذ بالثأر. وتتراوح عدد الجرائم من 5 إلى 20 جريمة يوميًّا. ونعاقب الزنا بسنتي سجن ودفع 7 أبقار، وكذلك على القاتل أن يدفع 31 بقرة تعويضا لأهل القتيل".
ويضيف أيضاً: "تواجهنا مشاكل في ورق الكتابة والأسلحة البسيطة والاتصالات والعربات واللبس حتى نفرق بين الشرطة والجيش".
وعند زيارتي للسجن الذي يقع داخل المدينة وجدته عبارة عن مبانٍ متهالكة قديمة غير مؤمنة. وقابلت "ماثيو جيت" مسئول سجون البحيرات، وقال: "لقد تأسس هذا السجن عام 1947 أي منذ عهد الاستعمار، ويسع 1500 سجين، ولدينا الآن 500 سجين، ولكن تقابلنا مشاكل خاصة بالطعام والفرش والنوم. كما نعاني أيضاً من القصر الشديد الخاص بعملية الحراسة فمن المفترض أن يكون لدينا 300 عسكري للحراسة، وعندنا أقل من 100؛ لذلك هناك حالات هروب كثيرة من السجن، كما أن الهاربين يتوجهون إلى المناطق التابعة للحكومة؛ مما يصعب علينا القبض عليهم.
يقول "عز الدين" الأمين العام للمجلس الإسلامي بالجنوب: "لدينا الآن 5 آلاف مسلم فقط بعد أن وصل عددهم إلى 27 ألفا عام 1987، وذلك بسبب النزوح والتنصير وغياب دور المنظمات الإسلامية؛ ففي الجنوب يوجد 4 كنائس كبيرة و20 كنيسة صغيرة، في الوقت الذي لا يرفع فيه أي أذان بالمنطقة حتى أذان يوم الجمعة، وليس لدينا سوى مسجد واحد بني في عهد الملك فاروق 1947 وهو مدمر الآن.
ويضيف قائلا: "ونناشد اليوم الدول العربية والإسلامية أن تساعدنا لبناء مسجد جديد".
[تحرير] بين الوحدة والانفصال
بعد هذه المشاهد البائسة ومع احتفاء الناس بنا أيقنت أنه بقليل من الاهتمام وإعمار هذا المكان الجميل ستكون الوحدة حتما في السودان، ولكن بعد ذهابي إلى فندق "أفيكس" الذي يقيم فيه قادة وفد المفوضية وجدت مكانًا مختلفا تمامًا على مستوى خمسة نجوم بموسيقى غربية وخمارة وأجانب، وعندما تبادلت الحديث مع شباب الحركة الذي تعلم بالخارج فوجئت بنتيجة أخرى وهي الرغبة في الانفصال ولديهم إستراتيجية واضحة؛ لهذا فهم يريدون أولا بناء دولة في الجنوب اقتصاديا وعسكريا؛ لأنهم لن ينسوا أبدا ما فعله الشمال بهم في الحرب، ولذلك يريد هؤلاء أن يبنوا دولتهم ويحسنوا علاقاتها مع دول الجوار، ويكونوا معها حلفا يشابه الاتحاد الأوربي، وبعدما تقوى دولتهم يفكرون ثانية في العودة أو عدم العودة إلى الشمال.
رجعت إلى "باندا" ذلك الفندق الذي أجلس به لأجد فرقًا كبيرًا بين "باندا" وأفيكس تماما مثل الفرق بين رومبيك والخرطوم. ذهبت إلى غرفتي الساعة الثامنة مساء لأجدها ظلاما سألت عن سبب انقطاع الكهرباء، وأفاجأ أنه لا توجد كهرباء في المكان من الأصل؛ فهناك مولد كهربائي يعمل إلى الساعة السادسة مساء وبعدها يقف ليعاود عمله في اليوم التالي، وهذه المولدات لم تكن بالطبع متوفرة للجميع فهي موجودة فقط في أماكن معينة، كما لاحظت عدم وجود اتصالات إلا بعض أجهزة التليفون المحمول التي تعمل بالأقمار الصناعية، وبالتأكيد لا يحملها إلا أفراد المنظمات والقيادات.
سألت "إدوارد لينو" المسئول الأمني في الحركة الشعبية: أين الخدمات؟ وكيف ستعمرون هذا المكان في هذه الفترة الوجيزة من المرحلة الانتقالية (6 سنوات)؟ هل لديكم خطة؟ هل توفرت الأموال؟ أم أنها مجرد وعود إلى الآن؟ قال لي: لو كنت أتيت إلينا منذ شهرين للاحظت فرقا كبيرًا؛ فنحن هيأنا المكان لاستقبالكم، فهنا أشياء كثيرة كانت غير موجودة حاولنا توفيرها، وأعدك لو أتيت إلينا مرة أخرى بعد عامين فستجدين مكانا آخر؛ فلدينا خطة للتعمير بدأنا فيها من الآن.
[تحرير] اقرأ أيضا
الهوية السودانية.. صراع ما بعد السلام. "الكومبوني" السودانية.. مدارس تبشيرية للدعاة والساسة.
- "البجا" السودانية.. الزواج عندهم إذلال للعريس!
- سلام السودان النهائي.. بدأ العد التنازلي.
- السودان.. تحديات التنفيذ تنتظر بروتوكولات السلام